إنّ مما لا شك فيه أنّ الساحة الدولية شهدت تحولات كبيرة فيما يتعلق بالرأي العام العالمي من حرب يهود على قطاع غزة، فقد بددت أشهر الحرب الطويلة التي زادت عن 20 شهرا لغاية الآن، بما ظهر فيها من وحشية وإجرام منقطعي النظير مارسها الاحتلال بأبشع صورها بحق الأطفال والنساء والشيوخ والمباني والمستشفيات ومراكز الإيواء والمدارس وكل معالم الحياة الإنسانية، إلى درجة فضحت كل مستور، وأطاحت بسردية يهود والمظلومية التي لطالما روجوا لها هم وقادة الغرب أمام شعوبهم.
فخرج الناس في الشوارع والميادين، وفي البرلمانات والمؤسسات، وفي المؤتمرات الصحفية والمحاضرات الجامعية، غاضبين حانقين على كل من يناصر يهود في عدوانهم على غزة وأهلها المستضعفين، ولم يسعف قادة الغرب حتى محاولة ربط الصراع بالإسلام والإسلاموفوبيا، لأن الجرائم والوحشية وصلت إلى حد لم يعد بالإمكان سترها.
وتركز ذلك في الأجيال الصاعدة والشباب أكثر من كبار السن، خاصة في أمريكا، ففي البداية انقسمت المجتمعات الغربية بين مؤيد ومعارض، رغم كل اصطفاف قادة الغرب مع كيان يهود. ثم سرعان ما رجحت كفة المعارضين على المؤيدين، وبات المؤيدون والسياسيون في مرمى انتقادات وهجوم المعارضين والناشطين، في مؤتمراتهم السياسية ومحاضراتهم الجامعية، وفي اللقاءات العامة، وحتى في المؤتمرات التسويقية والعروض التجارية كما حدث في شركة ميكروسوفت الأمريكية.
وساعد في ذلك وساهم بشكل كبير وسائل التواصل الإلكتروني المختلفة، إذ شكلت الإعلام البديل الذي ينقل الصورة كما هي، ساعة بساعة ولحظة بلحظة، بعيدا عن السردية والصورة التي كان يحتكرها الإعلام الرسمي، الناطق باسم الأنظمة والكيانات السياسية.
هذه الحالة وغيرها من التطورات الكثيرة، من مثل طول فترة الحرب، التي تكاد تقارب السنتين في حين كان المتوقع لها أن تكون بضعة أشهر، وبروز تحديات وقضايا أخرى أمام قادة الغرب من مثل صعود الصين وصمود روسيا في حربها مع أوكرانيا وحرب الرسوم الجمركية التي بدأها رئيس أمريكا ترامب، كل ذلك بات يشكل ضغطا على الغرب وقادته لإنهاء الحرب.
فبدأ ترامب ينتقد الحرب ووصفها بالوحشية، ثم تتالت بعده التصريحات الأوروبية وتعالت أصواتها في انتقاد الحرب وكيان يهود، من مثل إيرلندا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا وبلجيكا ومالطا وهولندا وغيرها، وبدأت العديد من الدول تتبنى موقفاً حازماً إزاء ما يحدث في قطاع غزة من عدوان متواصل وإبادة ممنهجة، لدرجة وصلت إلى حد التهديد بوقف التعاون التجاري، والتحذير من أنها لن تقف مكتوفة اليدين أمام العدوان الشرس الذي أكل الأخضر واليابس في غزة. وبحث وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مراجعة اتفاقية الشراكة مع كيان يهود. ووصل الأمر إلى حد حديث فرنسا وبريطانيا وكندا عن الاعتراف بدولة فلسطين لكبح جماح يهود ووضع العصا في دولاب نتنياهو، حيث جاء في بيان مشترك لماكرون وستارمر وكارني "نحن مصمِّمون على الاعتراف بدولة فلسطينية في إطار حل الدولتين، ونحن مستعدون للعمل مع آخرين لتحقيق هذه الغاية"، في إشارة إلى المؤتمر المقرّر عقده في حزيران/يونيو في الأمم المتحدة "لإيجاد توافق دولي حول هذا الهدف".
ولكن سرعان ما بدأ الأوروبيون يتراجعون شيئا فشيئا عن مواقفهم الآخذة بالتشدد بعد أن أعادت أمريكا تشغيل الكوابح أمامهم، خاصة بعد أن رفضت فصائل المقاومة في قطاع غزة مقترح ويتكوف الأخير لعملية الاستسلام وتبادل الأسرى، وصرح سفير أمريكا لدى كيان يهود، مايك هاكبي، حول الموقف الفرنسي الداعي لتأسيس دولة فلسطينية قائلا: "إذا كانت فرنسا مصرة، فلتقتطع قطعة أرض من الريفيرا الفرنسية لإقامة هذه الدولة".
فبدأت فرنسا بالتراجع شيئا فشيئا والتخفيف من اندفاعها، حتى نقلت وسائل إعلام بريطانية وشرق أوسطية أن فرنسا أبلغت كيان يهود بأنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية خلال مؤتمر الأمم المتحدة المقرر عقده في مدينة نيويورك بين 17 و20 من الشهر الجاري، والذي سترأسه فرنسا والسعودية. وكان ماكرون بشأن احتمال اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية قد أثار غضب كيان يهود، الذي ردّ بالإعلان عن إقامة 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية المحتلة، وذهب حتى إلى التهديد بضم الضفة، معتبرا أن أي اعتراف سيكون "على الورق فقط، ولا قيمة له على الأرض". كما أكدت باريس رسميا أنها لن تعترف بالدولة الفلسطينية بشكل أحادي، في ظل غياب أي ضمانات بشأن اتخاذ دول مثل بريطانيا، وكندا، ولوكسمبورغ، وبلجيكا، والبرتغال، وهولندا، الخطوة نفسها.
وللخروج بماء الوجه، وبعد أن التقط الأوروبيون رسالة أمريكا، تحول الحديث من الاعتراف بدولة فلسطينية إلى الاعتراف بمسار ينتهي بحل الدولتين، فقد أكدت مصادر غربية دبلوماسية أن بريطانيا وفرنسا وكندا أعدت قائمة شروط يتعين على منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس التعهد بها كشرط مسبق للاعتراف بمسار يؤدي إلى دولة فلسطينية. وتأتي هذه القائمة تحضيراً للمؤتمر المزمع عقده.
فمن ناحية السلطة الفلسطينية، أبلغ مسؤولون في تلك الدول مسؤولين في السلطة أن هذا المسار يتطلب منهم القيام بإصلاحات سياسية ومالية وإدارية جدية، تتضمن إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإحياء البرلمان، والتداول السلمي للسلطة وغيرها.
ومن ناحية حماس، سيتضمن المسار تجريد قطاع غزة من السلاح بصورة تامة، وتسليم إدارته بعد وقف الحرب وانسحاب يهود إلى حكومة أو هيئة فلسطينية محلية مستقلة، ولاحقاً إلى حكومة فلسطينية منتخبة. ويتطلب المسار من الحركة التحول إلى حزب سياسي، حال رغبتها بالمشاركة في الانتخابات، وفق القوانين والمواثيق والاتفاقات المعمول بها في السلطة الفلسطينية.
وهكذا فإن أمريكا وأوروبا يريدون للحرب أن تنتهي، وباتوا معنيين بذلك أكثر من ذي قبل، ولكنهم لا يريدون لها أن تنتهي بأي شكل، بل بنصر ليهود وهزيمة لغزة، فهم عمليا باتوا يدفعون باتجاه الاستسلام الذي يظنون أنهم قادرون على فرضه على أهل غزة، لذلك فهم في الوقت الذي يدعون فيه إلى إنهاء الحرب ووقف القتال ويتباكون على القتلى والجوعى والمرضى، يواصلون إمداد كيان يهود بالمال والسلاح منذ بداية الحرب. ثم يضحكون على شعوبهم وعلى العالم بأنهم يريدون وقف الحرب! فهذا نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، يصرح السبت بأنه لا يعتقد أن كيان يهود يرتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني من خلال حربه المستمرة في غزة. مضيفاً: "هذا هو السبب الذي يجعلني لا أعتقد أنها إبادة جماعية، لأنني لا أعتقد أن الإسرائيليين يحاولون عمداً قتل كل فلسطيني. لا أعتقد أن هذا ما يفعلونه" فهو لا يرى مجرد رؤية أن ما يحصل إبادة جماعية، فكيف سيتحرك لوقفها؟!
إنّ السبيل لوقف هذه الإبادة بحق أهلنا في غزة لن يكون على يد أعداء الله، وقادة الاستعمار الأمريكي والأوروبي، بل بجيوش الأمة وأبنائها الذين يجب عليهم التحرك نصرة لغزة وكل فلسطين، فبدون تحرك الأمة وجيوشها، فإن أعداء الله سيواصلون قتلنا وتهجيرنا والفتك بنا. وحتى عندما يقررون إنهاء الحرب فهم يريدون إنهاءها بهزيمة للمسلمين ونصر لأوليائهم يهود، قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾.
بقلم: المهندس باهر صالح
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع