قالت منصة مزيد على موقعها الجمعة 16/10/2025م، إن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أصدر قراراً جديداً رقم 3744 لسنة 2025 بفرض رسوم مالية على استخدام مياه نهر النيل والمجاري المائية ورفع المياه لغير الأغراض الزراعية، بدعوى "الإدارة الرشيدة للموارد المائية" ومواجهة العجز المائي. جاء القرار بعد يوم واحد من قرار آخر مماثل، ونص على تحصيل مقابل مالي عن كل متر مكعب من المياه وفقاً للغرض المستخدم فيه، تحوّل حصيلة هذه الرسوم إلى صندوق "إعادة الشيء إلى أصله" المخصص لصيانة المجاري المائية ومرافق الري والصرف وإزالة المخالفات. تأتي هذه القرارات في ظل تراجع نصيب الفرد من المياه إلى نصف خط الفقر المائي العالمي، واستمرار أزمة سد النهضة الإثيوبي التي تهدد حصة مصر من مياه النيل. وقد اتخذت الحكومة مؤخراً إجراءات ترشيد إضافية، مثل رفع أسعار المياه تدريجياً، وفرض رسوم على تركيب المضخات، وتجريم استخدام المياه النظيفة في أغراض غير ضرورية، وحظر زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه خارج المناطق المصرح بها.
رغم أن هذه الأرقام قد تبدو بسيطة للبعض، فإنها تعبّر عن تحول خطير في نظرة الدولة لمواردها الطبيعية، إذ تتعامل معها كمصدر للتربح وجباية الأموال، لا باعتبارها من الملكية العامة التي أوجب الشرع عليها أن ترعاها وتوفرها للناس مجاناً، دون مقابل أو رسوم.
إنّ مياه الأنهار والمجاري المائية، وفي مقدمتها نهر النيل، هي من الموارد التي جعلها الشرع الإسلامي ملكاً عاماً للأمة، لا يملكها فرد ولا دولة، ولا يجوز للدولة أن تتصرف فيها تصرف المالك ببيع أو تأجير أو فرض رسوم على الانتفاع بها، روى الإمام أحمد عن النبي ﷺ أنه قال: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالْكَلَأِ، وَالنَّارِ». وهذا نص صريح على أن الماء من المشاع الذي يشترك فيه جميع المسلمين، وليس لأحد أن يحتكره أو يبيعه. قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار: "دل الحديث على أن هذه الأشياء الثلاثة لا يجوز أن يختص بها أحد، بل الناس فيها سواء". وقال ابن قدامة في المغني: "لا يجوز إقطاع الماء، ولا احتجازه، ولا بيعه، لأنه مباح لجميع المسلمين".
وعليه، فإن مياه النيل لا تدخل في الملكية الفردية أو ملكية الدولة، بل هي من الملكية العامة التي جعلها الشرع حقاً مشتركاً بين الناس، والدولة لا تملك إلا إدارتها ورعايتها وتوزيعها بعدل، لا بيعها أو فرض رسوم على استخدامها.
إن الدولة ليست شركة تجارية تبحث عن مصادر دخل من موارد الناس، وإنما هي جهاز تنفيذي يقوم على رعاية شؤون الأمة في الداخل والخارج، امتثالاً لقوله ﷺ: «الْإِمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». وهذا يشمل تأمين حاجات الناس الأساسية من ماء وغذاء وكساء ومسكن وأمن، وضمان وصولها إلى الجميع دون تمييز. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو أن بغلة عثرت في العراق لسُئِلْتُ عنها يا عمر: لمَ لمْ تسوِّ لها الطريق؟". فكيف بمن يفرض على الناس رسوماً ليشربوا من نهرٍ هو ملك لهم في الأصل؟!
لقد جعل الإسلام بيت المال مسؤولاً عن تمويل مرافق المياه والري والصرف والصيانة، وليس جيوب الناس. فإن كانت هناك حاجة لصيانة المجاري المائية أو تشغيل الطلمبات، فإنها تُموّل من موارد بيت المال كالخراج والفيء والأنفال والركاز، لا بفرض رسوم على الاستخدام.
وقد بيّن الفقهاء أن منافع الملكية العامة لا تُباع، لأن ذلك يعني تمليك حق الانتفاع بما هو مشاع، وهو باطل شرعاً. وإذا قامت الدولة بجباية الأموال من الناس مقابل الماء العام، فهي تأخذ ما لا يحل لها، وتحمّل الناس عبئاً لا يجيزه الشرع.
ومن الثابت في الفقه الإسلامي تحريم فرض الضرائب على الناس إلا في حالة محددة جداً، وهي حالة نفاد موارد بيت المال مع بقاء حاجات واجبة على الدولة، مثل الجهاد أو الإنفاق على الفقراء، حينها يُفرض على أغنياء المسلمين فقط بقدر الحاجة، كما قرر ذلك الفقهاء. أما أن تفرض الدولة ضرائب ورسوماً على الرعية بشكل دائم ومستمر لتمويل نفقاتها، فهذا من المكوس المحرمة التي توعد النبي ﷺ أصحابها بقوله: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ». والمكس هو ما يُؤخذ من الناس بغير حق، سواء سُمي ضريبة أو رسماً أو مقابلاً. وقد اعتبر العلماء المكوس نوعاً من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. قال الإمام القرطبي: "المكوس من أعظم المآثم وأشنع الظلم". فالرسوم التي فُرضت على استخدام مياه النيل تدخل في هذا الباب، إذ هي جباية مفروضة على حقٍ أصيل للأمة لا يجوز بيعه ولا تحصيل الأموال عليه.
يبرر النظام المصري فرض هذه الرسوم بحجة "الإدارة الرشيدة للموارد المائية" ومواجهة العجز المائي الذي تفاقم مع استمرار بناء سد النهضة الإثيوبي.
غير أن المعالجة الشرعية لأزمة المياه لا تكون بتحميل الناس تكاليف إضافية، بل عبر:
1- حماية حقوق مصر المائية بشكل جاد، وعدم التفريط فيها عبر الاتفاقيات أو التنازلات.
2- تطوير شبكات المياه والري لمنع الفاقد الضخم الناتج عن التسرب والفساد وسوء الإدارة، وهو يقدّر بمليارات الأمتار المكعبة سنوياً.
3- توزيع المياه بعدل وتخصيصها للأولويات الشرعية كالشرب والزراعة، بدل هدرها في مشروعات ترفيهية أو صناعية لا تخدم مصلحة الأمة.
4- استخدام بيت المال في تمويل مشروعات الصيانة والتحديث، لا فرض الرسوم على الناس.
5- وضع سياسة مائية منبثقة من عقيدة الأمة، لا خاضعة لإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين أو شروط التمويل الأجنبية.
بهذه الرعاية يتحقق الأمن المائي، وليس بتحويل الماء إلى سلعة تباع وتشترى وتثقل كاهل الناس.
إن فرض رسوم على استخدام مياه النيل ليس إجراءً معزولاً، بل هو جزء من منظومة اقتصادية رأسمالية تتعامل مع كل مورد على أنه فرصة للجباية والربح، وتتنصل من مسؤولية الدولة في الرعاية.
ففي الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن حماية حصتها من مياه النيل أمام إثيوبيا، وتفشل في إدارة الموارد المائية بكفاية، تلجأ إلى أسهل الطرق، أي تحميل الناس العبء. وهذا يناقض جوهر الحكم في الإسلام، الذي يجعل الدولة خادمة للأمة لا متسلطة عليها.
إن مياه النيل والمجاري المائية ليست ملكاً للدولة لتبيعها للناس، بل هي من الملكية العامة التي أوجب الإسلام على الدولة أن تحافظ عليها وتوفرها للناس دون مقابل. وفرض الرسوم عليها هو اعتداء على حق الأمة، ومخالفة صريحة للشرع. والحل ليس في الجباية، بل في إقامة نظام حكم يطبق الإسلام تطبيقاً كاملاً، يرعى شؤون الناس بحق، ويوزع الموارد بعدل، ويستخدم بيت المال في مواضعه، ولا يتاجر بحقوق الأمة، قال ﷺ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ وَفَاقِتِهِ» رواه الطبراني.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر






















رأيك في الموضوع