لم يعد التضخم في مصر اليوم مجرد رقم تعلنه نشرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أو بيانات البنك المركزي. فحين تُعلن الحكومة أن معدل التضخم الرسمي يتراجع إلى حدود 12% أو تستهدف 10% في السنوات القادمة، يتساءل البسطاء من الناس هل هذا يعبر عن واقعنا؟ هل يعكس ما نواجهه يومياً من ارتفاع أسعار الغذاء والنقل والطاقة والدواء؟ إن الفجوة بين الأرقام الرسمية والواقع المعاش تكشف حقيقة التضخم باعتباره ليس مجرد ظاهرة اقتصادية محايدة، بل هو ضريبة خفية تُفرض على الأمة من دون قانون ولا تشريع، تُنهب بها الجيوب وتُستنزف بها المدخرات.
التضخم يعني تراجع القوة الشرائية للنقود، أي أن ما كان يشتريه الفرد بجنيه واحد بالأمس يحتاج اليوم إلى جنيهين أو أكثر. هذه الزيادة في الأسعار لا تعني بالضرورة زيادة في القيمة الحقيقية للسلع، بل تعكس انخفاضاً في قيمة النقود نفسها. وهذا الانخفاض في القيمة هو بمثابة سرقة غير مباشرة لجهود العاملين والمزارعين والموظفين، لأن أجرهم الثابت بالعملة المحلية يفقد قيمته مع مرور الوقت، وقد أطلق خبراء الاقتصاد الغربيون أنفسهم على التضخم وصف "الضريبة الخفية". يقول الاقتصادي الأمريكي جون ماينارد كينز: "لا وسيلة لتدمير أسس المجتمع مثل إفساد العملة. ذلك ينهب خفية ثلثي ثروة الشعب من دون أن يدرك أكثرهم أن يده قد سُرقت"، وهذا اعتراف صريح بأن التضخم ليس مجرد عرض اقتصادي، بل هو أداة لنهب الثروة.
ولعلّ ما يشهده المصريون اليوم من ارتفاع أسعار الخبز والأرز والزيت وأجرة المواصلات، هو الدليل الحيّ على أن التضخم ليس مجرد رقم في الجداول الرسمية، بل أزمة حياة تُلقي بثقلها على الأسر الفقيرة والطبقة المتوسطة التي تآكلت مدخراتها، وانحدرت إلى الفقر المدقع.
في آب/أغسطس 2025، أعلنت مصر أن التضخم الحضري بلغ نحو 12%، بينما أظهرت تقديرات المحللين أنه أقرب إلى 14% أو أكثر. وفي السلع الأساسية مثل الغذاء والطاقة، يصل التضخم الفعلي إلى 20% وربما 30%، وفق تقديرات خبراء اقتصاديين مستقلين. الفجوة بين الرقم الرسمي والحقيقة تكشف أن الدولة تخفي واقع الأزمة، وأن بياناتها لا تعبر عن معاناة الشعب، فالموظف الذي يتقاضى راتباً ثابتاً كل شهر، أو المزارع الذي يبيع محصوله بسعر محدد مسبقاً، يجد نفسه عاجزاً عن مجاراة الأسعار المتزايدة. هنا يصبح التضخم وسيلة الدولة، ومعها المؤسسات الدولية لسلب الناس أموالهم تحت ستار السياسة النقدية والإصلاحات الاقتصادية.
إن ما يحدث اليوم هو ظلم بيّن. فالشرع جعل حفظ المال من الكليات الخمس التي يجب أن تُصان. قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾، وقال رسول الله ﷺ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». وما التضخم إلا صورة من أكل أموال الناس بالباطل، لأن الدولة تطبع النقود أو تخفض قيمتها من دون غطاء حقيقي، فيتآكل مال الناس ويذهب عرقهم وجهدهم هباءً.
النقود في حقيقتها ليست سلعة تباع وتشترى بذاتها، بل هي مقياس للقيمة ووسيط للتبادل. فإذا فُقدت هذه الوظيفة بسبب طبع النقود الورقية بلا غطاء، فسد النظام الاقتصادي وأُكلت أموال الناس ظلماً. يقول ابن تيمية: "النقد لا يقصد لنفسه بل هو وسيلة إلى معرفة مقادير الأموال وقيمتها". وهذا يبين أن إفقاد النقد قيمته سرقة للوسيلة التي تضبط بها المعاملات.
لقد حلّ الإسلام أزمة النقود منذ البداية بأن جعل الذهب والفضة أساس النقد، فالدينار والدرهم كانا هما العملة الشرعية للدولة الإسلامية قروناً طويلة، وظلا يحفظان استقرار الأسعار، حتى في فترات طويلة من الازدهار والتجارة العالمية، قال الإمام الشافعي: "ولا يجوز أن تكون الدراهم والدنانير إلا ما كان من ذهب وفضة". فالشرع يوجب أن يكون النقد مالاً حقيقياً له قيمة ذاتية، لا أوراقاً تطبعها الحكومات أو تقرضها البنوك المركزية العالمية وفق أهوائها. وبهذا فقط يُقطع دابر التضخم ويُحمى مال الأمة من السرقة.
إن الحل الشرعي لا يكتمل إلا بفضح الدور التخريبي للمؤسسات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين، التي تفرض على مصر وغيرها قروضاً ربوية مشروطة، فتغرقها في الديون وتجبرها على سياسات تقشفية تزيد الفقراء فقراً. وقد اعترف الاقتصادي الأمريكي جون بيركنز في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم" بأنه كان "قاتلاً اقتصادياً" يعمل على إغراق الدول النامية في القروض لتبقى تابعة لأمريكا والشركات الكبرى. وهذا اعتراف صريح بأن هذه المؤسسات هي عصابات دولية تنهب ثروات الشعوب.
إن التضخم لا ينتج فقط من السياسات المحلية، بل هو أداة استعمارية تُفرض عبر ربط العملات المحلية بالدولار الأمريكي، الذي فقد هو نفسه غطاءه الذهبي منذ السبعينات. فالدولار يُطبع بلا رصيد، بينما تُجبر الدول النامية على ربط عملاتها به وتسديد ديونها به، فتتحمل الشعوب عبء التضخم الذي يصدره النظام الرأسمالي الأمريكي إلى العالم أجمع.
لقد قدّم الإسلام علاجاً جذرياً لأزمة التضخم:
أولا: بإلغاء النقود الورقية غير المغطاة، واعتماد الذهب والفضة أو ورقة نائبة عنهما كعملة للدولة.
ثانيا: تحريم الربا تحريماً قاطعاً، وبالتالي إسقاط نظام الديون الربوية الذي يُغرق البلاد في العجز والتضخم.
ثالثا: إقامة دولة الخلافة الراشدة التي تطبق أحكام الشرع في الاقتصاد وغيره، وتقطع تبعية البلاد للمؤسسات الدولية والدول الاستعمارية.
رابعا: إعادة توزيع الثروة بالطرق الشرعية، عبر الزكاة والفيء والأنفال، وضبط الملكيات الثلاث (العامة والخاصة وملكية الدولة) بما يمنع الاحتكار والنهب.
إن التضخم الذي يعصف بمصر اليوم ليس قضاءً محتوماً ولا قدراً اقتصادياً لا مرد له. بل هو نتاج نظام نقدي فاسد قائم على الورق بلا غطاء، وعلى الديون الربوية التي تفرضها المؤسسات الدولية. وهو في الحقيقة ضريبة خفية وسرقة ممنهجة لعرق الناس وجهدهم ومدخراتهم.
ولا حلّ لهذه الأزمة إلا بالعودة إلى الإسلام، إلى نقود الذهب والفضة، وإلى قطع التبعية للمؤسسات الغربية الاستعمارية. عندها فقط تتحرر الأمة من قيود التضخم ومن سرقة أعمارها وأموالها. قال رسول الله ﷺ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، والتضخم غشّ عظيم تمارسه الأنظمة والدول الاستعمارية معاً.
فلتكن كلمة الأمة عالية: لن نُسرق بعد اليوم، ولن نرضى بغير شرع الله حكماً ومعياراً.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع