يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
روي عن ابْن عَباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في مناسبة نزول هذه الآيات أنه قال: "لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ فقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ مُلْكُ فَارِسَ وَالرُّومِ؟" فجاءت هذه الآيات لتبين أن الملك وأسباب القوة والريادة والسيادة بيد الله وحده يعطيها من يشاء متى يشاء وينزعها ممن يشاء متى يشاء، وذكر بعض أهل العلم أن هذا يكون بالاستحقاق فَيُؤْتِي الملك والسيادة مَن يَقُومُ بِهِ، ويَنْزِعُهُ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ. وهذه سنة الله في الحياة لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾ وقال: ﴿وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾، وهكذا سنة الله سبحانه وتعالى لا تبديل لكلماته ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾.
ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى في الآية التالية كيف أنه يقلّب الليل والنهار فيبدأ دخول الليل عند انسياب النهار وخروجه، ويبدأ دخول النهار عند نهاية الليل، بشكل متناغم متناسق أشبه ما يكون بانسياب الماء سلساً سهلا لا يلحظه المرء دفعة واحدة بل يشعر بتغيره رويدا رويدا حتى ينقلب الليل إلى نهار ساطع أو ينقلب النهار إلى ليل دامس.
واللافت في هاتين الآيتين هو الربط بين سنن الله الكونية في الأجرام والكواكب وتعاقب الليل والنهار وانسيابها في بعضها وتقلبها في اليوم الواحد وبين سنن الله في الحياة من تقلّب أحوال الأمم والممالك، وارتفاع شأن بعضها على بعض وهبوطها واندثارها بأمر الله ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ﴾.
فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للناس ألا ترون كيف يقلب الله الليل والنهار فيولج النهار في الليل وتبدأ بوادره بالظهور وعلاماته بالتجلي لأعين الناس حتى تنقشع ظلمة الليل كاملة، ويبدأ ظهور الفجر الساطع حتى يكتمل نهاره وتسطع شمسه جلية مشرقة. ثم ما تلبث أن تبدأ الشمس بالغياب والنهار بالأفول حتى يصل إلى نهايته فيخفت ضوؤه حتى يزول ويتبدد ليعود الليل من جديد. وهذه الدورة اليومية في الحياة التي تراها كل عين ويدركها كل عقل هي ذاتها دورة حياة الأمم والشعوب والعروش والممالك، ما إن يبرز نجم بعض الممالك والقوى ويسطع في الأفق حتى يبدأ بالأفول والزوال بأمر الله.
يقول ابن عاشور رحمه الله: وهذا رَمْزٌ إلى ما حَدَثَ في العالَمِ مِن ظُلُماتِ الجَهالَةِ والإشْراكِ، وإلى ما حَدَثَ بِظُهُورِ الإسْلامِ مِن إبْطالِ الضَّلالاتِ، ولِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ﴾، لِيَكُونَ الِانْتِهاءُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾.
واللافت في زماننا اليوم بما لا يخفى على كل ذي بصيرة، أننا نشهد لحظة أفول نجم طغت قوته وسطوته على مشارق الأرض ومغاربها ردحا من الزمان، ألا وهو نجم المبدأ الرأسمالي الذي بدأ في القرن السابع عشر حتى تسيّد العالم بأسره، وطغى وتجبر في البلاد وأكثر فيها الفساد، حتى إذا استغلظ واستوى على سوقه، جاءه بأس الله وخسر هنالك المبطلون. ونحن إذ نشهد أفول نجم هذا المبدأ وهذه الدولة اليوم، ونرى حتمية سقوطها حسب سنن الله في الأرض، نلاحظ أن الكثير من المفكرين الغربيين المبصرين لحقيقة الأشياء يرون حتمية سقوطها، وأن زوالها قد اقترب.
فهذا المفكر الأمريكي بول كنيدي، يصف في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى (١٩٨٧)": "إن أمريكا على مسار السقوط بسبب إنفاقها العسكري الضخم وعجزها التجاري".
والمفكر الفرنسي إيمانويل تود، يقول في كتابه: "ما بعد الإمبراطورية (٢٠٠١)": "إن التفكك الاقتصادي والاجتماعي في الداخل هو علامة من علامات الأفول، وإن أمريكا تستخدم العنف لإخفاء ضعفها، وليس للتعبير عن قوتها".
نعوم تشومسكي يقول: "الولايات المتحدة تنهار من الداخل، وليس هناك حاجة لأي عدو خارجي لإسقاطها".
كريس هيدجز في كتابه "إمبراطورية الأوهام" يقول: "لقد دخلنا المرحلة النهائية لأي حضارة؛ مرحلة الإنكار، حيث الترفيه يحل محل الحقيقة، والثرثرة تحل محل الفكرة".
أما الكاتب أندرو باسيفيتش فيقول في كتابه "نهاية الاستثناء الأمريكي": "إن الولايات المتحدة لم تعد تملك الوسائل ولا الشرعية لتفرض إرادتها على العالم".
وهناك المئات من الكتب والمؤلفات التي كتبت وصرحت بحتمية انهيار هذا النظام، وهذا ما يؤكد الحقيقة الربانية في زوال الأنظمة الطاغية المتجبرة، ونحن نشاهد هذا التحول اليوم، ونرى علاماته ظاهرة جلية، فقد بدأت عوارضه من حرب الخليج الأولى واعتداء أمريكا على العراق وقتل الأبرياء واحتلال البلاد وتدمير أفغانستان وانتشار صور الظلم والعدوان بغير حق، ونهب خيرات البلاد ونشر الفساد والشذوذ والإباحية في الأرض، وفساد الاقتصاد وتدهور النظام المالي، إلى أن تجلّى الفساد في أعلى صوره بدعم الكيان الفاشي في فلسطين لقتل وتدمير وتهجير أهل غزة وإبادة جماعية وتجويع بأبشع صور الوحشية التي تأنفها وحوش الغاب. فهذا الفساد والانهيار وعدم الإنسانية كان بلا شك نذير خراب وإعلان نهاية للظالمين. قال تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ﴾.
إن ما نشهده اليوم من صور الانحدار ما هو إلا نهاية حقبة، بل نهاية ليل طال ظلامُه وأحلكت أيامُه، وبدأ يقشع سواده ويبدّد ظلامَه فكرةٌ ربّانية بدأ نورها يبزغ من جديد وبوادرها تلوح في الأفق، فكرة صافية نقية تحملها أمة آمنت بها وضحّت من أجلها بالغالي والنفيس ولم يعد بمقدور فراعنة هذا العصر ردها، فدورة الأيام قد دارت، وقد آن أوانها اليوم ولن تستطيع كل قوى الظلم والطغيان إيقافها، فما هي إلى ساعة من نهار أو يقظة بعد نوم حتى تكتمل دروة الزمان، ويأذن الله بانطلاق فجرها، وما ذلك على الله بعزيز، عسى الله أن يكحل أعيننا برؤية نور شمسها ورحمة عدلها وسنا مجدها. اللهم آمين.
بقلم: الأستاذ خالد علي – أمريكا






















رأيك في الموضوع