تغدو قرغيزستان يوماً بعد يوم أكثر خضوعاً لسياسة الصين التوسعية، ويشهد على ذلك عددٌ من الاتفاقيات والمشاريع الكبرى بين البلدين. ففي 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025 أعلنت الوكالة الوطنية للاستثمار التابعة للرئاسة القرغيزية عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة صينية لبناء مدينة أسمان في إيسيك-كول، وقد قُدِّرت تكلفة المشروع بنحو 20 مليار دولار، وفقاً لبيانات وزارة الاقتصاد. وقد ربط الرئيس جباروف سابقاً تنفيذ المشروع بإدخال تعديلات عليه وبمتطلباتٍ بيئية.
ومعلوم أن مشاريع من قبيل "الاقتصاد الأخضر" و"المدينة الخضراء" ليست سوى فخاخ تخدم مصالح الرأسماليين، إذ إن هؤلاء يستغلّون مثل هذه المشاريع تحت ذريعة الاستثمار ليحققوا أرباحاً طائلة. وغالباً ما تُرفق القروض والمنح والاستثمارات المخصّصة للمشاريع البيئية بشروطٍ صارمة، بحيث تُقدَّم مطالب الجهة المموِّلة على غيرها.
وبالنظر إلى السياسة الناعمة التي تنتهجها الصين، فمن المرجّح أن تُخصَّص حصص داخل المدينة المزمع بناؤها للصينيين. أما الأموال التي ستُنفق لتنفيذ المشروع فستُحمَّل كدين على عاتق قرغيزستان، لتتحول إلى أداة ضغط إضافية.
وجدير بالذكر أن الحصة الكبرى من الدَّين الخارجي الحالي لقرغيزستان تعود إلى الصين، إذ يبلغ إجمالي هذا الدَّين نحو 5.2 مليار دولار، منها ما يقارب 2 مليار مستحقّان للصين، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا المبلغ مع تنفيذ مشاريع ضخمة مثل خط السكة الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبيكستان.
علاوة على ذلك، تعد الصين الشريكَ التجاري الرئيسي لقرغيزستان، إذ تشكل تجارتها الخارجية مع الصين نحو ثلث إجمالي تجارتها (36.6%). وقد بلغت قيمة التبادلات التجارية بين قرغيزستان والصين في عام 2024 نحو 22.7 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 15% مقارنةً بالعام الذي سبقه. كما أن حجم الاستثمارات الصينية في قرغيزستان يشهد نمواً متواصلاً، حيث بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة إلى البلاد خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 حوالي 747 مليون دولار، منها 30% أي ما يعادل 221.5 مليون دولار مصدرها الصين.
وإلى جانب ذلك، تمتلك الشركات الصينية أكثر من 80% من الحصة في قطاع التعدين القرغيزي، وتشارك بنشاط كبير في استخراج الذهب والمعادن الثمينة. وغالباً ما تقوم هذه الشركات بنقل الخامات المعدنية إلى الخارج ما يؤدي إلى تقليل الكمية المعلنة من الذهب أو المعادن الثمينة المستخرجة. وتعمل في البلاد أكثر من 300 شركة صينية، بالإضافة إلى ما يقارب 200 شركة مشتركة قرغيزية-صينية.
ولم يقتصر تغلغل الصين في قرغيزستان على المجال الاقتصادي فحسب، بل تجاوز ذلك إلى مجالاتٍ أخرى مثل السياحة والأعمال. ففي الآونة الأخيرة، ازداد بشكل ملحوظ شراء الصينيين للعقارات داخل البلاد بذريعة السياحة أو الاستثمار. كما أن تطبيق نظام الإعفاء من التأشيرة للصينيين في قرغيزستان فتح الباب أمام ترسيخ وجودهم وتوسعهم داخل البلاد.
بل إن الجرائم التي يرتكبها الصينيون باتت تتكرر في البلاد، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الحادثة التي وقعت في 24 تشرين الأول/أكتوبر، حين ألقيت امرأة قرغيزية من مبنى شاهق بعد شجار مع شخصين صينيَّين. وقد أظهر مقطع فيديو انتشر على وسائل التواصل صينيين وهما يراقبان المرأة وهي تتدلى من الشرفة قبل سقوطها.
ومن هذا نستخلص أن ازدياد النفوذ الصيني في المنطقة يشكّل خطراً حقيقياً على المسلمين، وينبغي ألّا ننخدع ببعض التحسينات في البنية التحتية أو بانطلاق المشاريع الاستراتيجية، لأنها في حقيقتها تزيد من تبعيتنا للصين وتقيّد إرادتنا الاقتصادية والسياسية.
ومعلوم لدى الجميع أن الصين الملحدة تمارس منذ عقود اضطهاداً ممنهجاً ضد المسلمين في تركستان الشرقية، فتعتقلهم وتشرّدهم وتمنعهم من أداء عباداتهم، بل وتفرض عليهم أكل لحم الخنزير وشرب الخمر والتخلي عن دينهم، كما تجبر أخواتنا المسلمات على الزواج من الصينيين الوثنيين من قومية الهان. وقد ألقي بالملايين من إخوتنا الأويغور في معسكرات يسمّونها "معسكرات إعادة التأهيل"، حيث تعرّض كثيرٌ منهم للتعذيب والقتل.
وفي الوقت الذي يغضّ فيه النظام العالمي الكافر والنظام الدولي الطرف عن جرائم الصين هذه، يلتزم حكّام البلدان الإسلامية الصمت وكأنهم يوافقون ضمناً على ما يجري! ومن ثم، لا يستطيع أحدٌ أن يضمن أن الصين لن تواصل سياساتها الإجرامية في تركستان داخل آسيا الوسطى، بما في ذلك قرغيزستان.
لا يمكن انتظار الخلاص من الهيمنة الصينية من المنظمات الدولية، لأن هذه المنظمات أُنشئت أصلاً لضمان بقاء سيطرة القوى الاستعمارية الكبرى. فمثلاً، ماذا فعلت الأمم المتحدة تجاه ما يرتكبه النظام الصيني من جرائم واضطهاد بحق الأويغور وسائر المسلمين؟ لم تفعل شيئاً، لأن الصين عضو دائم في مجلس الأمن!
وكذلك لا يجوز التعويل على أمريكا للخلاص، فهي دولة استعمارية أخرى مجرمة، وما فعلته في أفغانستان والعراق وغزة لم ينسه أحد بعد.
أما روسيا، فليست هي الحل أيضاً؛ فهي مستعمر قديم لآسيا الوسطى، وهي اليوم ضعيفة أمام الصين وتُفسِح لها المجال لتتوسع في المنطقة.
إن طريق التحرر من الاستعمار الصيني لا يكون إلا بالإسلام! فالإسلام وحده هو القادر على توحيد المسلمين في هذه المنطقة تحت راية واحدة وجُنة واحدة، كما وحّدهم في المدينة المنوّرة تحت قيادة الدولة الإسلامية التي فتحت بلاد فارس والروم، فكسرت هيمنة الإمبراطوريات الكبرى آنذاك.
والغاية من ذلك ليست استعباد الشعوب كما تفعل القوى الاستعمارية اليوم، بل إخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ومن ظلم الطغاة إلى عدل الإسلام.
إن قضية المسلمين لا تُحلّ إلا بإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، الدولة التي تكون درعاً لهم وحصناً يحميهم، تلك الدولة التي ستوحد ملياراً ونصف المليار مسلم في العالم، فتقضي على ظلم الدول الاستعمارية وتنشر العدل والحق في الأرض.
بقلم: الأستاذ ممتاز ما وراء النهري






















رأيك في الموضوع