حين نحاول فهم الواقع كما هو، فإن الموضوعية تقتضي أن نقرأه بعيون مجرّدة من الأمنيات، لا أن نُسقِط عليه ما نرغب في رؤيته.
فمحاولة فهم السياسات الأمريكية، وأسباب تحركها، هو بحد ذاته موضوع مستقل. أما تحليل مدى نجاحها بعد ذلك أو فشلها، وما يعيقها أو يدعمها، فهو باب آخر، لا يجوز الخلط بينه وبين القراءة الواقعية؛ ذلك أن فهم الواقع شيء، واستشراف المستقبل شيء آخر تماماً.
وجهة النظر هذه تنبع من الإيمان بأن أمريكا تعمل وفق خطة طويلة الأمد ومتناسقة، تستند إلى فهم دقيق لمصالحها وقدراتها. ورغم أن نتائج هذه الاستراتيجية لا تزال غير مؤكدة، فإن الثبات في الأهداف عبر إداراتها المختلفة يظل ملحوظاً.
هل نجحت أمريكا في مشروع الشرق الأوسط الجديد؟
هذا السؤال يفتح باباً تأويلياً واسعاً، لأن تقييم النجاح أو الفشل يظل خاضعاً لزاوية نظر المتحدث (Subjective View). ومن هنا تتباين الآراء:
- رأي أول: أمريكا فشلت، لأنها لم تُنجز مشروعها رغم مرور أكثر من عقدين، واضطرت إلى تعديل أدواتها مرات عديدة نتيجة إخفاقات متكررة.
- رأي ثانٍ: تغيّر التوازنات الدولية، وصعود قوى منافسة، يعزز الاعتقاد بأنها لن تستطيع بلوغ أهدافها، على الأقل بالشكل الذي رسمته سابقاً.
- رأي ثالث: لا يمكن اعتبار الفشل خياراً نهائياً، فالمشاريع ذات الأهداف المعقدة والممتدة زمنياً لا تُقاس بنجاح سريع. وأمريكا، رغم التراجع الظاهري، ما زالت الدولة الأولى عالمياً، وتحقق تقدماً جزئياً في مشروعها، خاصة عبر أدوات ودول ومصالح متشابكة في الشرق الأوسط: كيان يهود، وإيران، وتركيا.
وبين هذه الآراء جميعاً، لا نجد صواباً مطلقاً ولا خطأً مطلقاً. فالزاوية التي يُنظر منها إلى المشهد، والرسالة التي يُراد إيصالها، هي ما تحدد التقييم النهائي.
فمن أراد التأكيد على ضعف أمريكا كإمبراطورية آيلة للأفول، سيركز على اضطراب أدواتها وتناقض سياساتها وتغير أدواتها. أما من أراد تقديم قراءة سياسية واقعية، فسيشير إلى قدرة أمريكا على امتصاص الفشل، وتعديل المسار، والاستمرار في تحقيق أهدافها رغم التحديات.
وهنا تكمن خطورة المرحلة، إذ تصبح الإمبراطورية المتداعية أكثر شراسة، تتخلى عن المبادئ المتبناة لديها، وتخوض مواجهات غير محسوبة، وتدفع بخصومها إلى حافة الهاوية. فالساقط من علُو يجرُّ من حوله للسقوط معه.
بين إعادة الهيكلة والانفجار المرتد:
في تقديري، نجحت أمريكا جزئياً في تنفيذ سياسة إعادة هيكلة سايكس بيكو القديم باتجاه شرق أوسط جديد، ولا تزال تمضي قدماً في مشروع إعادة الهيكلة الإقليمي، مستعينة بثلاثي النفوذ: كيان يهود، وإيران، وتركيا.
لكن هذا الشرق الأوسط الجديد، الذي تحاول صياغته، قد يكون شرارةً لانفجار معاكس، خاصة إذا ما تحركت الشعوب والجيوش ضد الهيمنة الأمريكية والمشروع الجديد.
فالإهانة قد تؤدي إلى الانفجار، والتاريخ مليء بالشواهد. ومع تطور أدوات التواصل، وزيادة الوعي الجماهيري، لم تعد الشعوب كما كانت، ولا باتت السيطرة عليها كما كانت. ولذلك، فإن السياسات المتغطرسة والمبنية على تقديرات خاطئة تولّد واقعاً جديداً لم يكن بالحسبان. نسأل الله أن يجعل مكرهم في نحرهم.
تغيّر الاستراتيجيات الأمريكية: من التفرد إلى الشراكة المشروطة
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تبنّت أمريكا استراتيجية القطب الأوحد، لكنها سرعان ما أدركت كُلفة هذا النهج، ما دفعها إلى مراجعة استراتيجيتها.
- إدارتا بوش الأب والابن سعتا لتكريس التفرد الأمريكي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، لكنها لم تصمد طويلاً أمام الأعباء المتزايدة.
- قامت إدارة أوباما بتقديم خطاب ناعم يدعو إلى الشراكة والتعددية، دون أن تنجح في تحويله إلى واقع مؤثر.
- فجاءت إدارة ترامب وانتهجت أسلوباً فظا، فحاولت استقطاب روسيا واستعداء الصين بشكل مباشر، لكنها اصطدمت برفض صيني واضح لعدم رغبة الصين الدخول في حرب باردة، وفق ما صرّح به وزير الخارجية الصيني.
- نقلت إدارة بايدن المواجهة إلى الساحة الأوروبية، مستهدفة روسيا بشكل مباشر، ونجحت إلى حد بعيد في استنزاف الأطراف، وخلخلت النظام الدولي تمهيداً لإعادة تشكيله بما يكرّس بقاء أمريكا كقوة مركزية.
حرب غزة: كاشف سياسي وفضيحة أخلاقية:
جاءت حرب غزة لتكشف قبح السياسة الأمريكية، الداعمة بلا تحفظ لكيان يهود في عدوانه الوحشي والإبادة للشعب الفلسطيني.
لقد صمدت غزة بشكل أسطوري، صموداً لم يكن في حسبان المخططين الاستراتيجيين لا في واشنطن ولا في تل أبيب. وفشلهما في تحقيق أهدافهما جعل من هذه الحرب نقطة تحول في الوعي الإقليمي والدولي.
التحولات الأخيرة: ترامب مجدداً وملامح الانهيار
ثم جاء قدر الله بمرض بايدن وتدهور حالته الذهنية المفاجئ قبيل الانتخابات، ما أعاد تشكيل الحكومة الأمريكية تحت إدارة ترامب، لكن هذه المرة بصفته "كرتاً محروقاً" وربما كبش فداء لمرحلة قادمة! وبرز الضعف الاقتصادي الأمريكي، وظهرت بوادر انهيار بمديونية تفوق 36 تريليون دولار، ما دفع إدارة ترامب لاعتماد قرارات قاسية وتعسفية وجريئة وخطيرة في آن.
ختاماً: بين الهيمنة والانهيار... من يملأ الفراغ القادم؟
لا يمكن الجزم بالنجاح أو الفشل الأمريكي الآن، فالصورة لم تكتمل بعد. لكن المؤكد أن أمريكا، كإمبراطورية متداعية، تلعب بأوراق خطرة، قد تعيد تثبيت موقعها، أو تسقطها تماماً، وربما تجرّ العالم كله نحو فوضى غير مسبوقة.
ومن وجهة نظرنا بصفتنا مسلمين ومفكرين سياسيين، فإن اللحظة التاريخية التي نعيشها تفرض علينا مسؤولية كبرى، تستوجب الاستعداد وبناء البديل الحقيقي القادر على ملء الفراغ القادم.
نسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يكتب لهذه الأمة مخرجاً يليق بها وبمكانتها.
بقلم: الأستاذ سامر دهشة (أبو عمر)
رأيك في الموضوع