في لحظة واحدة، توقفت آلاف الاتصالات، وتقطعت شبكة الإنترنت، وتعطلت حياة ملايين المصريين، وتكشّفت أمام أعين الناس حقائق مدفونة خلف جدران سنترال رمسيس. لكن الحدث لم يكن مجرّد حريق، بل كان دليلاً دامغاً على فساد نظام كامل، وفشل الدولة القائمة، وتغوّل الإهمال في مفاصل المؤسسات. فقد أظهر الحريق بما لا يدع مجالاً للشك أن النظام القائم ليس راعياً لشؤون الناس، بل بيئة خصبة للفساد والإهمال والانهيار المتكرر.
ما حدث في سنترال رمسيس يُثبت ما أكده الواقع مراراً وتكراراً وهو أن النظام المصري ليس نظام رعاية، بل نظام إدارة أزمات. فلم يكن حريق السنترال حادثاً مفاجئاً، بل كان نتيجة تراكمات من الفساد وسوء الإدارة، وتجاهل التقارير الفنية والتحذيرات المتكررة. وقد كشفت تقارير صحفية أن البنية التحتية داخل السنترال كانت متهالكة منذ سنوات، مع غياب منظومة فعّالة للإطفاء الآلي والصيانة الوقائية. حيث قال مصدر فني سابق في المصرية للاتصالات "نحن أرسلنا أكثر من تقرير رسمي بين عامي 2022 و2024 عن تهالك الكابلات القديمة داخل السنترال، وعدم وجود نظام رش آلي للحريق في الطوابق العليا، لكن إدارة الشركة لم تتخذ أي إجراء يُذكر" (المنصة، 11 تموز/يوليو 2025).
هذا الإهمال الموثق لم يكن عارضاً، بل يعكس منظومة قائمة على التجاهل والتقصير، ويُبرز كيف تتم التضحية بمرافق حساسة مقابل اعتبارات بيروقراطية أو مالية، ما يجعل النظام نفسه مصدر خطر على مصالح الناس الحيوية.
لقد تساءل الناس بمرارة، كيف لمبنى بهذه الأهمية أن يخلو من منظومة حماية متكاملة؟! وأين كانت الجهات الرقابية؟ ولماذا لم تُجدد الأجهزة والأنظمة رغم معرفة الجميع بأنها منتهية الصلاحية؟ الإجابة الحقيقية ليست في تحقيق فني أو تقرير إداري، بل في طبيعة النظام نفسه، الذي لا يرى في الإنسان قيمة، ولا في الرعاية مسؤولية، بل في كل شيء أداة للاستثمار والنفعية أو السيطرة الأمنية.
إن غياب المحاسبة الجادة والمستمرة هو أبرز مظاهر فساد النظام، فالمسؤول لا يحاسب بناء على الإخفاق والتقصير، بل يُحاكَم من يتجرّأ على السؤال أو الاحتجاج! هذه هي العدالة المقلوبة التي تنتجها الدولة المدنية الرأسمالية، والتي لا تعرف من الرعاية إلا ما يتوافق مع مصلحة النظام وأجهزته الأمنية.
حريق السنترال لم يكن مجرد حدث فني، بل ضرب قلب الاقتصاد والخدمات. تعطلت خدمات الإنترنت والاتصالات البنكية، ما أدى إلى تعطل التحويلات الإلكترونية، وعرقلة العمليات التجارية، وتأخير صرف المرتبات. وتأثرت المستشفيات والبنوك ومراكز الخدمة، ما يظهر هشاشة الاعتماد المركزي على منشأة واحدة من دون خطط بديلة، رغم توفر البدائل، إلا أن النظرة الأمنية والنفعية الرأسمالية هي التي تحدد خطط النظام وكيفية تعامله مع منشأة كهذه بما يمر خلالها من معلومات.
إن النظام القائم في مصر، مثله مثل غيره من الأنظمة القائمة في البلاد الإسلامية، يتبنى النظام الرأسمالي القائم على المصلحة والمنفعة. هذا النظام لا يعترف بالمسؤولية الشرعية عن رعاية الناس، بل يحوّل كل مرفق إلى مصدر ربح أو باب للرشاوى والفساد. لذلك لا يتفاجأ المرء حين يسمع أن التقارير الرقابية التي نبهت إلى خطر الحريق قد تم تجاهلها، لأن إصلاح الأعطال لا يدخل في أولويات الميزانية الرأسمالية، أو لأنه لا يُدرّ دخلاً مباشراً.
وتكفي نظرة سريعة إلى كيفية تعامل النظام مع الكارثة لندرك عمق الانحراف: فبدلاً من التركيز على مراجعة البنية ومحاسبة المسؤولين، انشغلت الدولة بإرسال التعويضات الرمزية، وكأنها تشتري صمت الضحايا بـ"باقات إنترنت" و"جيجات مجانية"، متناسية أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير!
من سنترال رمسيس إلى انهيار الكباري، ومن حوادث القطارات إلى كوارث الطرق، ومن غرق العبارات إلى حرائق المستشفيات، تتكرر الكوارث بشكل مريب، وكأنها حلقة واحدة في مسلسل الانهيار! وكل مرة، تطمس الحقائق، وتبرر الأخطاء، وتعاد الوجوه ذاتها لإدارة الفشل!
إن تكرار هذه الكوارث، دون أي إصلاح جذري، يعني أن الدولة المدنية التي يُروج لها على أنها "حديثة وتنموية" هي في حقيقتها شكلية، خاوية من المضمون، تفتقر إلى الأخلاق، وتفتقد إلى النظام الذي يلزمها برعاية مصالح الناس.
إن الأمة اليوم مطالبة بأن تُدرك أن النظام القائم في مصر، وسائر بلاد المسلمين، هو جزء من نظام دولي فاسد، يريد أن تبقى الأمة متخلفة وضعيفة ومنحطة، تحكمها أنظمة وظيفية لا تهتم برعاية الناس، بل تُسخَّر لحماية مصالح الغرب، ولو على أنقاض الشعوب.
لقد آن للأمة أن ترفض هذه الأنظمة، وأن تعمل بجد لإقامة الدولة التي تقيم الدين، وترعى الشؤون، وتمنع الفساد، وتجعل من كل مرفق خدمة وليس سلعة، أمانة وليس سلطة.
إنها دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي لا يمكن أن تترك منشأة حيوية بهذا الشكل دون حماية أو رقابة. فمن مقتضى الرعاية أن تبنى المرافق العامة على أسس متينة، وأن تراقب وتصان بشكل دائم، لأن فيها مصالح الناس ومعاشهم وأمنهم، فسارعوا إلى العمل معنا لإقامتها أيها المسلمون، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع