تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكية وثيقة توجيهية عليا يصدرها الرئيس وفق التزام إجرائي نصّ عليه قانون جولد ووتر-نيكولز لعام 1986، دون أن تكون مُلزِمة قانونياً أو ذات أثر تشريعي مباشر، إذ لا تُنشئ حقوقاً أو واجبات قابلة للنفاذ أمام القضاء. ومع ذلك، تكتسب الوثيقة وزناً سياسياً كبيراً باعتبارها التعبير الأكثر رسمية عن عقيدة الرئيس في الأمن القومي والسياسة الخارجية، وتعمل كإطار استراتيجي يوجّه سياسات وزارات الدفاع والخارجية والأجهزة الاستخباراتية، كما تُستخدم في إدارة العلاقة مع الكونغرس وتبرير الموازنات الدفاعية، وفي إرسال رسائل سياسية واضحة للحلفاء والخصوم حول أولويات أمريكا واتجاهاتها الكبرى. وبذلك تجمع الوثيقة بين طابع قانوني شكلي وطابع سياسي موضوعي يجعلها أحد أهم أدوات صناعة القرار الاستراتيجي في أمريكا.
أبرز ما جاء في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025
في تغيير جذري عن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022 التي دعت إلى تعزيز الديمقراطية في ظل النظام العالمي الحالي، نشرت إدارة ترامب، أمس الجمعة، استراتيجية جديدة شددت على مبدأ عدم التدخل ووضع "أمريكا أولا".
إعلان أمريكا تحولاً استراتيجياً كبيراً في سياستها الخارجية، ينطلق من إدراك أن زمن القيادة العالمية المنفردة قد ولى، لتحل محله أولوية حماية الداخل الأمريكي وتقليل الالتزامات العسكرية العالمية. وتعتمد هذه الرؤية الجديدة على مبدأ إلزام الحلفاء بتحمل نصيب أكبر من تكاليف أمنهم، مع تحول الجيش الأمريكي إلى قوة أقل انتشاراً وأكثر تكنولوجية، تعتمد على الردع عبر القوة الجوية والصاروخية بدلاً من الجيوش البرية التقليدية، وتقلل من الانخراط في الحروب الخارجية المباشرة. وتركز هذه السياسة على أمريكا اللاتينية والحدود الجنوبية كأولوية كبرى، في إطار مواجهة تهديدات مباشرة مثل الهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة العابرة للحدود.
في مواجهة التهديدات الأساسية، تتبنى أمريكا سياسات إقليمية متمايزة ترتكز على تقليل الدور المباشر. ففي مواجهة الصين كمنافس رئيسي، تعتمد استراتيجية الردع الاقتصادي والعسكري حول تايوان مع تجنب الحرب المباشرة، مطالبةً حلفاء مثل اليابان وكوريا بتحمّل المزيد. وفي أوروبا، التي ترى أنها مهددة بـ"انهيار حضاري"، ترفض واشنطن أي توسع للناتو وتطالب الأوروبيين بحماية أنفسهم. أما في الشرق الأوسط، فتحافظ على دعم محدود لاستقرار الملاحة واحتواء إيران، مع تفادي حروب جديدة وإلقاء المسؤولية على الشركاء المحليين. ويعكس هذا كله تركيزاً داخلياً عميقاً على إعادة بناء الصناعة، وتشديد أمن الحدود، والحد من الاعتماد على سلاسل التوريد الأجنبية - لا سيما الصينية - باعتبار أن الأمن الاقتصادي أصبح مساوياً في أولويته للأمن القومي التقليدي.
وبذلك تجمع الاستراتيجية بين الحفاظ على القيادة الأمريكية للنظام الدولي، وإعادة تشكيل أولوياتها وفق معادلة قوة عالمية تريد أن تبقى قوية، لكن بتكلفة أقل وتدخل أقل وحلفاء أقوى (ومستقلين).
لماذا أمريكا أولا؟
توجّه إدارة ترامب نحو "أمريكا أولاً" ليس ناتجاً عن دافع واحد، بل هو حصيلة تفاعل أربعة مستويات: فكرة قومية انعزالية تعود إلى مبدأ مونرو، وحسابات اقتصادية تتعلق بتراجع الصناعة والعجز التجاري، وضغوط مجتمعية ناتجة عن الخوف من التهميش والهجرة، وسياقات سياسية تهدف إلى تعبئة القاعدة الانتخابية، وإعادة تعريف دور أمريكا عالمياً. وبهذا، فإن "أمريكا أولاً" تُعد عقيدة متعددة المصادر تجمع بين الفكر القومي والاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
تعكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكية في عهد ترامب عودة واضحة إلى الأسس الفلسفية لمبدأ مونرو (1823)، من خلال إعطاء الأولوية للداخل الأمريكي وتقليص الالتزامات العسكرية والدبلوماسية الخارجية، واعتبار المشاركة الدولية عبئاً ينبغي الحد منه ما لم يُحقق منفعة مباشرة لأمريكا. وتُحوِّل الاستراتيجية مفهوم أمريكا أولاً إلى إطار مؤسسي أقرب إلى العزلة الانتقائية، حيث تتدخل أمريكا فقط عندما يتعلق الأمر بمصالح حيوية، بينما تبتعد عن لعب دور شرطي العالم أو حامل لواء الديمقراطية عالمياً، وهو ما يشكّل امتداداً حديثاً لنهج مونرو في الانكفاء الاستراتيجي عن صراعات العالم القديم.
انعزالية انتقائية تجمع بين حماية المصالح الوطنية والاستبقاء على أدوات التعاون الدولي الأساسية، مع دفع الحلفاء لتحمّل أعباء أكبر دون التفريط تماماً في أدوات الردع والحوكمة العالمية، ودون الانزلاق مجدداً إلى دور شرطي العالم الشامل، يعني سياسة خارجية لا ترفض العالم بقدر ما تعيد حساب مصالحها وفق منطق المصالح المباشرة، مع ميل للحذر من الالتزامات طويلة المدى.
توجهات ترامب ليست استثناءً
لا يمثّل توجه إدارة ترامب انحرافاً كاملاً عن المسار التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية، بل هو تشدد جذري داخل خط عام ثابت يقوم على مبدأ أولوية المصلحة القومية. فقد حافظت أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية على عقيدة راسخة تتمثل في أربعة مبادئ دائمة: القيادة العالمية باعتبارها "الدولة الضرورية" لضبط النظام الدولي، ومنع ظهور قوة منافسة مهيمنة في المناطق الحساسة (أوروبا، شرق آسيا، الشرق الأوسط)، وتوسيع النفوذ الاقتصادي الأمريكي وحماية التجارة العالمية، وإدارة شبكة تحالفات واسعة (الناتو، آسيا، الشرق الأوسط) بمنطق الحماية مقابل النفوذ. هذه المبادئ ظلت أساسية عبر إدارات متعاقبة من ترومان إلى أوباما، ما يؤكد وجود إطار استراتيجي ثابت.
غير أن الأسلوب الذي انتهجه ترامب ودرجة تطبيقه جعلا هذا التوجه يبدو كأنه انقلاب على التقاليد الأمريكية، رغم كونه في الجوهر امتداداً صلباً لاتجاهات قائمة. فالتغيير الحقيقي تمثل أولاً في تحول شعار حماية الداخل من مبدأ ضمني إلى قاعدة صدامية في كل الملفات، عبر خروج صريح من اتفاقيات دولية كباريس والشراكة عبر المحيط الهادئ، وضغط مالي مباشر على الحلفاء، وحرب تجارية معلنة مع الصين، وتخفيض الالتزامات العسكرية الخارجية. وثانياً، تبنّى ترامب منطق ثنائية العلاقات بدل التعددية الدولية، معتبراً العالم ساحة للصفقات وليس شراكة مؤسساتية، وشكّك بشكل غير مسبوق في قيمة التحالفات التاريخية التي اعتبرها سابقوه الذراع الطويلة لأمريكا، ووصفها بـالصفقات غير العادلة. كما رفع سقف القومية الاقتصادية من فكرة محدودة إلى استراتيجية شاملة عبر الرسوم الجمركية وحملات إعادة التصنيع إلى الداخل واستهداف سلاسل الإمداد العالمية.
ومع ذلك، تظل سياسة ترامب استمراراً للخط العام العميق، فهي تندرج ضمن توجهات أمريكية راسخة: تقليل التورط في حروب خارجية (كما بدأ مع أوباما)، والتركيز على المنافسة الاستراتيجية مع الصين (التي تم التخطيط لها منذ بوش الابن)، وحماية الطبقة المتضررة من العولمة (هاجس داخلي منذ التسعينات)، وطلب تقاسم الأعباء من الحلفاء (فكرة تكررت منذ نيكسون). إذن، لم يغيّر ترامب الأهداف الاستراتيجية العميقة لأمريكا، بل غيّر وسائلها ودرجة حدّتها، محوّلاً القيادة الجماعية إلى قيادة صفقاتية، والتحالفات التقليدية إلى تحالفات مشروطة بشروط مالية صارمة، والعولمة المنفتحة إلى قومية اقتصادية هجومية. لذا، فهو ليس انحرافاً، بل عودة حادة إلى جذور الانعزالية.
ختاماً، إن اختيار العزلة والانكفاء يعني عجز أمريكا ومن ورائها النظام الرأسمالي عن قيادة العالم. فبعد سقوط الشيوعية فإن نهاية الرأسمالية كمبدأ كوني صارت وشيكة جراء نزعتها الفردانية الأنانية وما جرّته على البشرية من دمار وحروب عالمية وانسلاخ عن الفطرة السليمة.
يبقى الإسلام هو المبدأ الوحيد الصالح للبشرية، لأنّه دين الله الموافق لفطرة الإنسان وكذلك لأن تبليغ الرسالة إلى العالم ودعوة الناس كافّة إليه هي فريضة واجبة على أفراد المسلمين وعلى أمّتهم والقضية الأولى لدولتهم فهي ليست اختيارا سياسيا أو تمشيا مصلحياً. وكما قاد الإسلام العالم لأكثر من عشرة قرون سطع فيها نور العدل والإحسان، فإنّ عودته أكيدة ووشيكة ودولته قائمة قريبا لتحمل لواء الحقّ والرحمة للبشرية قاطبة.
بقلم: الأستاذ ياسين بن يحيى






















رأيك في الموضوع