إن الإشكال الجوهري في تناول قضية فلسطين لا يكمن في غياب الأدوات أو ضعف الوسائل، بل في الإطار المعرفي الذي صاغ العقل السياسي لأبناء الأمة الإسلامية خلال القرن الأخير.
فالوطنية لم تكن في أي لحظة مشروعا للتحرير، بل كانت بحكم نشأتها ووظيفتها التاريخية آلية لإعادة تشكيل الوعي وفق هندسة الدولة القُطرية الوظيفية، التي فرضتها القوى الاستعمارية. وبالتالي، فإن تحويل قضية فلسطين إلى (قضية وطنية) لم يكن سوى خطوة في عملية اقتلاعها من سياقها الطبيعي؛ سياق الأمة ووعيها وعقيدتها، وإدراجها ضمن منطق سياسي ضيق بني ابتداء لضبط الشعوب وإدارة حدود التجزئة.
فالوطنية في جوهرها خطاب بلا مضمون فلسفي أو استراتيجي، بل هي إطار انتماء فارغ، لا يقدم أي إجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالاقتصاد أو السياسة أو الدين أو الاجتماع. إن الهوية الوطنية، بمرونتها غير المنضبطة، تتسع للعلماني والمتدين، والديمقراطي والمستبد، والليبرالي والاشتراكي، من دون أن توفر رؤية تحدد غاية الوجود السياسي أو موقع القضية في بنية الوعي العام. وهذا الفراغ المعرفي هو ما سمح بتحويل قضية فلسطين إلى ملف إداري قابل للتفاوض، تفصل فيه القوى الدولية، لا إلى قضية عقدية حضارية تتصل بجوهر وجود الأمة ومعناها.
والأسوأ من ذلك أن الفكر الوطني لم يكتف بالعجز عن إنتاج تصور للتحرير، بل أسهم بفاعلية في ترسيخ الهزيمة. فقد أعاد تعريف فلسطين وفق منطق الحدود السياسية، لا منطق الرمز العقدي؛ وقلصها من مساحة ذات دلالة حضارية إلى قضية شعب ينتظر اعتراف النظام الدولي. ولأن هذا النظام الدولي هو نفسه نتاج الهيمنة الاستعمارية، فقد وجد العقل الوطني نفسه يعمل داخل البنية التي صممت لتقييده، لا لتحريره. فصار الواقع هو معيار الممكن، وصارت الشرعية الدولية سقف التطلعات، وصار التفاوض غاية السياسة لا وسيلتها.
إن بنية الخطاب الوطني قائمة على أن يستبدل بالأسئلة الأساسية أسئلة هامشية: يتجاهل سؤال ما طبيعة الصراع؟ وينشغل بسؤال ما شكل الحل المقبول دوليا؟ ويتجاوز سؤال من هي الأمة؟ لصالح سؤال من هي الحكومة؟ ويتخلى عن سؤال ما الواجب؟ من أجل سؤال ما الممكن؟. وهكذا يتحول الوعي من وعي صاحِب عقيدة ورسالة إلى وعي مقيد بوظيفة إدارية هي تحسين شروط الهزيمة، لا كسر بنيتها. لذلك لم ينتج الفكر الوطني إلا خطابا عاطفيا يكرر الشعارات ذاتها منذ عقود من دون قدرة تفسيرية أو برنامج فكري أو حضاري، واعتمادا مرضيا على الخارج والشرعية الدولية، ورهانا على مزاج القوى الدولية، وتسليما ضمنيا بأن التاريخ ثابت وأن الواقع قدر لا يكسر.
إن أزمة الوطنية ليست سياسية فحسب، بل معرفية بالأساس. فهو نموذج معادٌ إنتاجه داخل حدود سايكس بيكو، لا يتجاوز الإطار الذي رسمه المستعمِر، بل يعمل وفق منطقه، ويعيد ترسيخه، ويمنح التجزئة شرعية الوجود. ولأن منطق الدولة الوطنية القطرية، منطق ضيق بطبيعته، فإنه يختزل الأمة في خرائط، ويختزل الهوية في جنسية، ويختزل الصراع في وثائق تفاوض، فيفقد الوعي قدرته على إدراك حقيقة الصراع بوصفه صراعا حضاريا بين مشروعين، لا نزاعا على خطوط جغرافية.
على النقيض من ذلك، فإن الفكر المبني على عقيدة الأمة لا يتعامل مع فلسطين كملف، بل كمكون تأسيسي من وعي الأمة وعقيدتها وهويتها. إنه يستعيد خصوصية فلسطين في الذاكرة العقدية والتاريخية، ويرفض مقاسها على منطق "الأرض المتنازع عليها"، وهذا الفكر يضع الصراع في سياقه الحقيقي: مواجهة بين مشروع إسلامي وحدوي حضاري، ومشروع استعماري استيطاني يعمل على تفكيك الأمة ونزع معانيها. لذلك فإن هذا الإطار لا يبحث عن حل يرضي الآخرين، بل عن استعادة دور الأمة وفاعليتها وصياغة مشروعها الحضاري.
والتحرير، وفق هذا المنظور، ليس عملية سياسية محضة، بل عملية معرفية قبل كل شيء. فلا يمكن أن تولد مشاريع التحرر داخل بنية فكرية صممت لإدارة الانقسام، ولا يمكن أن يخرج مشروع حضاري من عقل يرى الحدود أهم من العقيدة، والتسوية أهم من الحقيقة، والواقعية أهم من الواجب. إن استعادة فلسطين مشروطة أولا باستعادة معناها، كما أن تحرير الأرض مشروط بتحرير الوعي من الهندسة المفاهيمية التي فرضها الاستعمار.
ويؤكد التاريخ أن تحرير فلسطين كان دائما فعل أمة وليس فعلا قطريا؛ ففاتح القدس الأول هو عمر بن الخطاب القادم من الجزيرة العربية، وجاء محرروها من خارجها جغرافيا وقوميا؛ صلاح الدين الأيوبي، وقطز وبيبرس، ثم الدولة العثمانية التي صانتها أربعة قرون. وهذا وحده دليل قاطع على أن فلسطين لا تتحرر بجهد جزء من الأمة، بل بنهضة الأمة نفسها.
إن فلسطين، في إطار الفكر المبني على عقيدة الأمة، ليست وطنا محدودا، بل رمزا عقديا، وجزءا من هوية الأمة ورسالتها، وعنصرا مكونا لوعيها. وهي بهذا المعنى قضية أمة لا قضية شعب، وقضية عقيدة لا قضية ملف سياسي. وأي مشروع يتحرك خارج هذا الإطار سيظل حبيسا لبنية الهزيمة، مهما بلغ من التنظيم، ومهما رفع من رايات، ومهما أطلق من شعارات.
بقلم: د. أشرف أبو عطايا






















رأيك في الموضوع