تشهد الساحة المصرية في الأيام الأخيرة سلسلة من التحركات والتصريحات على مستويات سياسية وأمنية واقتصادية، تتكرر فيها الأنماط ذاتها؛ تطمينات للخارج، وتهدئة مصطنعة في الداخل، وسياسات تزيد من ارتهان البلد للقوى الدولية، وتحديداً أمريكا والاتحاد الأوروبي. المشهد العام يعكس استمرار الدولة في السير ضمن الإطار ذاته الذي تشكّل منذ عقود؛ منظومة حكم قائمة على رعاية المصالح الأجنبية واحتواء الشعب عبر أدوات أمنية واقتصادية صلبة.
التصريحات الرئاسية خطاب موجّه للخارج لا للداخل
خلال الأيام الماضية، ركّزت التصريحات الرسمية الصادرة عن الرئاسة المصرية على ثلاثة محاور رئيسية:
1- تأكيد الشراكة مع أمريكا وأوروبا
أبرزت الخطابات الرسمية حرص النظام على التأكيد أن مصر "شريك موثوق" في ملفات تتعلق بأمن شرق المتوسط، والهجرة، وغزة، والطاقة. هذا النوع من الخطاب موجّه بالأساس للعواصم الغربية، ويؤكد استمرار النظام في تقديم نفسه كضامن لمصالحهم الجيوسياسية، حتى عندما تكون هذه المصالح على حساب مصلحة مصر ومقدرات أهلها.
2- التركيز على "الاستقرار" كذريعة
يركز النظام على عبارة "الحفاظ على الاستقرار" لتبرير السياسات الأمنية والاقتصادية. بينما في الواقع، يُستخدم هذا الشعار لإخماد أي نقاش حول سوء الإدارة أو التبعية الخارجية أو احتقان الشارع.
3- الحديث المتكرر عن "إنجازات اقتصادية"
تسويق مشاريع ضخمة، وافتتاحات متكررة، والإعلان عن اتفاقيات جديدة مع مستثمرين أجانب.
هذه التصريحات تأتي عادة بعد كل تقرير دولي ينتقد الوضع الاقتصادي أو مفاوضات قرض أو مراجعة جديدة من صندوق النقد، أي أنّها أقرب إلى محاولة توجيه صورة إعلامية أكثر منها سياسات حقيقية.
تحركات النظام خدمة للأولويات الدولية
1- ملف غزة ومعبر رفح: في الأيام الأخيرة صدرت تصريحات لعدد من المسؤولين المصريين تتحدث عن "التنسيق الأمني الدائم" و"نقل المساعدات عبر نقاط محددة" و"العمل مع الشركاء الدوليين لحماية الاستقرار الحدودي"، تعكس هذه العبارات استمرار مصر في الالتزام برؤية أمريكا وكيان يهود لإدارة المعبر، وليس إدارةً مستقلة تعبّر عن مسؤولية شرعية تجاه أهل غزة المحاصرين.
ويُلاحظ أيضاً: الحديث عن "ضوابط أمنية" جديدة وتأكيد أن فتح المعبر مشروط باتفاقات سياسية وتحميل "الأطراف كافة" مسؤولية تعطّل دخول المساعدات، وهذا كله يصبّ في إطار إدارة الأزمة بما يرضي الأطراف الدولية، لا في إطار موقف مبدئي ينصر أهل غزة ويرفع الظلم عنهم.
2- الانخراط في ترتيبات شرق المتوسط: ظهور ملف الغاز بقوة مجدداً، بما فيه الحديث عن تعاون ثلاثي مع دول متوسطية. هذه التحركات تؤكد أن مصر مستمرة في قبول دور "المنفّذ" في منظومة تقسيم موارد المتوسط، حيث تستفيد القوى الكبرى بينما تبقى مصر في موقع الطرف التابع الذي يقدّم التسهيلات.
3- إعادة إنتاج الخطاب الإصلاحي: تصريحات وزارية تتحدث عن (تحسين بيئة الأعمال، وإعادة هيكلة الدعم، وتقليل العجز). هذه أدوار معتادة تُطلب من النظام كجزء من الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي، وهي شروط تُعيد إنتاج الأزمة ولا تعالج جذورها.
لوحظ في الأيام الأخيرة نشاط إعلامي لمسؤولين أمنيين يحذّرون من "محاولات استغلال الظروف الاقتصادية"، ويدعون لمساندة الدولة. هذا الخطاب يهدف إلى ردع أي تحرك شعبي وتقديم الأجهزة الأمنية بوصفها صمام الأمان ومن ثم التغطية على الاحتقان الداخلي المتصاعد وأي تعامل معه من الأجهزة الأمنية، كما تُستخدم لغة التحديات والتهديدات لتبرير استمرار القبضة الأمنية والسيطرة على المجال العام.
قراءة المشهد
1- طبيعة الدولة الحالية
المتابعة الدقيقة تظهر أن الدولة لا تمارس سيادة حقيقية، بل تعمل كوكيل سياسي وأمني واقتصادي للغرب، وتخضع لشروطه في كل كبيرة وصغيرة. فالسيادة ليست مجرد رفع علم أو وجود حدود جغرافية، بل قرار مستقل ونظام حكم مستمد من عقيدة الأمة، وسياسات لا تخضع لإرادة الخارج، وهذه الأمور جميعها غائبة.
2- المشاركة في حصار غزة
الواجب الشرعي تجاه غزة - بل تجاه أي أرض إسلامية تتعرض لعدوان - هو النصرة لا التسهيل ولا المشاركة في ترتيبات أمنية تُبقي الحصار قائماً. الواقع يكشف أن إدارة معبر رفح ليست قراراً داخلياً مستقلاً، بل جزء من تفاهمات أمنية وسياسية مع أمريكا وكيان يهود.
3- استمرار الارتهان الاقتصادي
القروض والاتفاقيات المرتبطة بالإملاءات الخارجية ليست سوى وسيلة لإحكام السيطرة على البلاد من خلال ربط اقتصادها بالمؤسسات الدولية. الاقتصاد القائم على الاقتراض والجباية لا ينهض ولا يبني قوة حقيقية.
4- الشرعية الحقيقية ليست في "الاستقرار" المزعوم
الاستقرار الحقيقي يقوم على العدل، ورفع الظلم، ورعاية شؤون الناس وفق أحكام الإسلام، لا عبر القبضة الأمنية ولا عبر التطمينات الموجّهة للدول الكبرى.
وفق المؤشرات الحالية، يمكن توقع ما يلي:
1- تعمّق التبعية في الملفات الإقليمية، خصوصاً غزة، وليبيا، وشرق المتوسط، والبحر الأحمر.
2- استمرار الضغوط الاقتصادية، مع زيادة موجات الضرائب، والرسوم، ورفع الدعم، استجابة لشروط المانحين والمؤسسات الدولية.
3- تشديد القبضة الأمنية، خصوصاً مع ارتفاع معدلات الغضب الشعبي وازدياد حالة السخط.
4- تزايد الخطاب الدعائي، سيستمر الإعلام في الترويج لإنجازات ومشاريع، بينما الواقع اليومي يزداد قسوة على الناس.
إن المشهد في مصر خلال الأيام الماضية لا يختلف عن السياق العام الذي تعيشه منذ سنوات؛ تحركات رسمية متناسقة مع السياسات الغربية، وإدارة أمنية للداخل، وتوظيف سياسي وإعلامي للخطاب الاقتصادي لتسكين الغضب. كل ذلك يجري في ظل غياب المشروع السياسي المستقل، وغياب النظام الذي يعبّر عن هوية الأمة ويقوم على أحكام الإسلام، ويجعل الولاء لله ورسوله ﷺ وليس للجهات المانحة ولا للدوائر الغربية.
وفي خضم هذا المشهد، يبرز دور فئة لم تفارق مكانتها في ذاكرة الأمة هي جند الكنانة، أهل القوة والمنعة والنصرة. فبين سياسات تُكبّل البلد، وتبعيات تُحكم الخناق، وقرارات تُتخذ استجابة لضغوط خارجية لا لحاجات الناس، تبقى القوة الحقيقية في أيديهم.
أيها الجند: إن الأمة التي قدّمت أبناءها في صفوفكم، والتي ترى فيكم حصنها الحصين، تنتظر منكم موقفاً يليق بالمسؤولية التي أودعها الله في أعناقكم بأن تكونوا سنداً للحق حين يضعف، ودرعاً للناس حين يُستضعفون، وسيفاً للعدل حين يُغتال. وأنتم أدرى الناس بأن الطريق الذي تُساق له البلاد اليوم - بما فيه من تبعية للخارج، وتضييع لقضايا الأمة، واحتواء للدين ليخدم السياسة - لا يمكن أن يستقيم مع مسؤوليتكم الشرعية ولا مع الأمانة التي حملتموها يوم اخترتم أن تكونوا جنداً لهذه الأمة.
إن التاريخ لا يتغير بخطابات سياسية ولا بخطط اقتصادية مرتهنة، بل يتغير حين تتحرك قوة تمنح الناس الأمل وتعيد وصل ما انقطع بين الأمة وعقيدتها ومشروع عزتها. وهذه القوة في أيديكم، والأمة من حولكم، واللحظة تناديكم.
اللهم أعد لنا دولة الإسلام وسلطانه وشرعه لنستظل بظلها من جديد؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر






















رأيك في الموضوع