أثير ملف انسحاب القوات الأمريكية من العراق في شهر تموز 2020م عقب اغتيال أمريكا قاسم سليماني وأبا مهدي المهندس في 2/1/2020م، وعلى إثر ذلك وبعدها بأيام قليلة قرر البرلمان العراقي إخراج قوات التحالف من العراق، وظلت المفاوضات بين العراق وأمريكا إلى أن توصلا في أيلول/سبتمبر 2024 إلى تحديد موعد أيلول/سبتمبر 2025 من أجل بدء المرحلة الأولى من انسحاب القوات الأمريكية من العراق، على أن تبدأ المرحلة الثانية في أيلول/سبتمبر 2026.
وبالرغم من إقرار هذه الاتفاقية فإن العراق لم يتخلص من النفوذ الأمريكي، وهذا يتضح من خلال البيان المشترك للجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن أن "العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية".
فما هو الجديد في انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة عين الأسد؟ ولماذا ارتبك السياسيون واختلفت مواقفهم ومشاعرهم، وكذلك الشارع العراقي؟
والجواب على ذلك: هو أن الانسحاب جاء مفاجئا وبدون التنسيق مع الحكومة العراقية، وقبل موعده حيث كان من المقرر أن يبدأ بعد الانتخابات وبالتنسيق مع الحكومة العراقية.
ومما زاد في الارتباك والتشكيك أنه جاء بعد تدهور العلاقة بين العراق وأمريكا بسبب إصرار بعض القوى السياسية المتمثلة بالإطار التنسيقي، على التصويت على قانون الحشد الذي ترفضه أمريكا بشدة، مع التلويح بالعقوبات الاقتصادية في حال تمريره.
وكذلك توقيع الاتفاقية الأمنية بين العراق وإيران في 11/8/2025 في إطار "تعزيز العمل الأمني المشترك على الحدود العراقية الإيرانية" التي تمتد لأكثر من 1400 كيلومتر، وهذا ما أثار حفيظة أمريكا، التي تعمل على تحييد نفوذ إيران في المنطقة من خلال استهداف حلفائها ومصالحها.
فجاء هذا الانسحاب المفاجئ كرسالة قوية وعصا غليظة على الحكومة العراقية في حال عدم المبالاة لتهديدات أمريكا، وفتح المجال أمام سيناريوهات جديدة منها عسكرية كضرب قادة الفصائل وقصف مستودعاتهم، أو انفجار الشارع الذي وصل الاحتقان فيه إلى أشده كثورة أكبر من ثورة تشرين التي اندلعت في 1 تشرين الأول سنة 2019.
خصوصا وأن العراق قد وقع في مثل هذا الفخ من قبل، كما فعلت أمريكا بعد قرار خروجها عام 2011م وكان ينظر إليها أنها قوات غازية، عادت إلى البلد بدعوى واستغاثة من الحكومة العراقية، بعد السماح وتمكين تنظيم الدولة من السيطرة على ما يقارب ثلث العراق، على أنها قوات صديقة ومحررة.
فهو ليس انسحابا بل إعادة انتشار حيث إنها استقرت في أربيل، كما أنه ليس من المنطقي أن تنسحب أمريكا من العراق بهذه السهولة وتتركه للفصائل المسلحة التي بات نفوذها أقوى من سلطة الحكومة العراقية.
ويبدو أن التهديد آتى أكله فقد صرح عضو مجلس النواب هادي السلامي، فيما نقله موقع الفلوجة الإخباري "أن سحبَ مشروعِ قانون هيئة الحشد الشعبي تم عقبَ اجتماع للإطار التنسيقي، مبيناً أنَ رئيسَ الوزراءِ نفذ قرار الاجتماع من دون إعادة القانون حتى الآن. وأوضحَ السلامي أن هناك مساعي لجمع تواقيع النواب لإدراج قانون الحشد في جلسات البرلمان الأسبوع المقبل". لكنه "أشار إلى غياب الإرادة الواضحة لدى قادة الإطار لتمرير القانون رغم استكمال القراءة الأولى والثانية. مشيراً إلى أن هناك خلافات بين الإطار التنسيقي على المناصب".
وأيا كان ما تخططه أمريكا فإن العراق ليس مؤهلا أن يكون طرفاً للتفاوض، لأنه وبكل بساطة بلد فاقد للسيادة، واقع تحت مطرقة الاحتلال الأمريكي وسندان القوى الإقليمية ومشاكلها وخاصة إيران ومليشياتها.
فإيران التي تنفخ في الفصائل العراقية وتصرح أنها أقوى من قبل، وهذا ما جاء على لسان أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، "أن حرب بلاده ضد إسرائيل لم تنتهِ بعد" مشيراً إلى أن "جبهة المقاومة في العراق ولبنان ما زالت حية وقوية رغم الضغوط والحرب"، مؤكداً في الوقت ذاته أن طهران لا تسيطر عليها، فإيران هذه لا يؤمن جانبها وعلى الذين يراهنون عليها من الفصائل أن يعتبروا بغيرهم فلقد تخلت عن حزبها في لبنان وتركته لقمة سائغة لكيان يهود، وكذلك خرجت من سوريا ذليلة، وهي بلا شك مستعدة للتنازل عن الفصائل المسلحة العراقية الموالية لها من أجل مصالحها القومية ومن أجل بقاء نظامها السياسي.
في الختام نقول: إن بقاء القوات الأمريكية شرّ وانسحابها بهذا الشكل شرّ كذلك، كما أن بقاء هذه الطغمة الفاسدة الجاثمة على صدور الناس من أهل العراق شر كبير، فقد تحول الفساد من ظاهرة طارئة إلى بنيان مرصوص يصعب هدمه، فقد استولت هذه الطغمة الحاكمة على جل مقدرات البلد لمنافعها الخاصة، وهذا ما يفسر تصارع هؤلاء الفاسدين على السلطة وتمسكهم بها، وتسقيط بعضهم لبعض.
إن الخير كل الخير هو بإخراج المحتل الأمريكي مرغماً وتحرير العراق من كل أشكال الاحتلال، العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وهذا لا يكون إلا بقلع هذا النظام العفن، وهذه الطغمة السياسية الفاسدة، بعد أن تعي الأمة على مصالحها، وتتخذ شرع الله هداية لها، والالتفاف حول قيادة سياسية واعية مخلصة، عندها يخرج العراق وجميع بلاد المسلمين من التيه والظلام إلى الهداية والنور. قال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد الطائي – ولاية العراق
رأيك في الموضوع