إن الأمم لا تنهض ولا تقوى، إلا بوحدة جامعة تربط بين أفرادها، وهذه الوحدة هي العقيدة، التي تحدد النظام الذي يحكمها، ويوجه مسارها. فإذا اتحدت العقيدة، وانتظم النظام، توحد موقف الأمة، وأصبحت كالجسد الواحد الذي يتحرك بنبضة واحدة، فتتحول قوى الأفراد إلى قوة جماعية ضاربة، كريح عاتية لا يقف أمامها شيء.
ولذلك افتتحت الآية السابقة بقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾، لأن طاعة الله ورسوله ﷺ توحد الاتجاه، وتجمع القوى، كما تتجمع الكهرباء في خلايا القلب لتصنع النبضة التي بها تستمر الحياة.
أما حين يحصل التنازع، فإن قوى الأمة تتعاكس، وتلغي إحداها الأخرى، فينخفض أثرها، أو ينعدم، وتصبح الأمة فاشلة ضعيفة، لا تملك تأثيرا، ولا تستطيع مقاومة، بل تتفتت لتكون لقمة سائغة لأعدائها.
من هنا، كان الاجتماع على طاعة الله ورسوله ﷺ، هو السبيل الوحيد لوحدة المسلمين، كما قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾.
فحبل الله هو دينه، والاعتصام به هو الاجتماع على ما جاء في الكتاب والسنة. وأي انحراف عن هذا الحبل، يحول المسلمين إلى شراذم متنازعة متقاتلة، لا وزن لهم في العالم.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن التنازع قائم في صور عديدة، وأخطرها التنازع السياسي، سواء بين الأنظمة الحاكمة، أو بين الأحزاب السياسية.
أما تنازع الأنظمة، فمرده أن هذه الأنظمة ليست من صنع الأمة، بل فرضت عليها بفعل الاستعمار، الذي مزق الأمة، وقيد إرادتها، وزرع فيها نظما تبنت الأفكار الغربية في الحكم والتعليم والاقتصاد وغيرها.
وقد كان من أهداف هذه النظم، أن تبقي الأمة ضعيفة مفككة، من خلال صراعات طائفية، وقومية، وجغرافية، بين كيانات مصنوعة، تنشغل ببعضها عن قضاياها المصيرية.
ومن هذه الكيانات من يشعل الحروب، ويغذي الصراعات، كما تفعل بعض دول الخليج - وعلى رأسها الإمارات - بدورها التخريبي في اليمن وليبيا والسودان وغيرها، خدمة للمشاريع الغربية، وإعادة لإنتاج الفساد بقوالب جديدة.
وأما التنازع بين الأحزاب السياسية، ففوق كونه ذا طابع داخلي، فإنه لا يقل خطرا، لأن أغلب هذه الأحزاب يستند إلى ثقافات وافدة، وتوجهات مستوردة، لا تمت إلى عقيدة الأمة بصلة، وهي في الغالب توظف طاقات الأمة في صراعات على مصالح ضيقة، وتتنافس على مكاسب حزبية على حساب وحدة الأمة وقوتها.
والحق أن الأمة لا تتوحد بحزب يدعو لذاته، أو يطلب الولاء لرايته، وإنما تتوحد بحزب يدعو إلى طاعة الله ورسوله ﷺ، ويهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية الجامعة، التي تطبق شرع الله، وتجمع الأمة تحت سلطان الإسلام، فتتحول العقيدة من إيمان فردي، إلى نظام شامل يحكم العلاقات، ويضبط شؤون المجتمع.
فبدون هذه الدولة الجامعة، ستبقى الأمة متنازعة متفرقة، تستهلك قواها في الصراعات، ويستمر العجز والوهن، وتتوالى الهيمنة والاستباحة. أما حين تتجه جهود المخلصين إلى إعادة هذه الدولة الراشدة، فإن الأمة ستعود كما أرادها الله: أمة واحدة قوية راشدة حية.
إن العمل لإقامة هذه الدولة واجب شرعي، وضرورة واقعية، وهو الطريق الوحيد نحو استعادة العزة والكرامة، بعد قرن من الانحدار، الذي بدأ بضعف الخلافة، وتعمق حتى صرنا أضعف الأمم وأهونها، ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.
بقلم: الشيخ يوسف مخارزة – بيت المقدس
رأيك في الموضوع