تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لواحد من أهم الأحداث في تاريخ الشام المعاصر؛ الحدث الذي لطالما كان يُعَدّ من المستحيلات في ذهن كل سوري، ذكرى سقوط وهروب طاغية الشام وفرار جنوده، ودخول السوريين فاتحين إلى دمشق وسجن صيدنايا. وبينما تضج الساحات بمشاعر الفرح واستعادة لحظات التكبير والسجود شكراً لله على زوال الغمة التي ذاق ويلاتها أهلُ سوريا ولبنان على حد سواء، يبرز تساؤل جوهري عميق يطرحه المخلصون والمراقبون هو: هل حققت الثورة نصرها القرآني المنشود، أم أن أصابع الأخطبوط الدولي نجحت في احتواء هذا الطوفان وتوجيهه نحو مسارات رسمتها القوى الكبرى؟
إن الإنجاز الأبرز الذي لا يمكن إنكاره هو إزاحة الصخرة التي كانت جاثمة على صدر الأمة، والمتمثلة في رأس النظام. هذا السقوط الذي حدث في معركة ردع العدوان لم يكن وليد صدفة، بل كان نتيجة ضغط شعبي هائل ووقود ثوري تراكم عبر أربعة عشر عاماً، حتى وصل الطوفان إلى دمشق في أحد عشر يوماً فقط.
ومع ذلك، فإن هذا النجاح العسكري يواجه ميزاناً شرعياً وسياسياً دقيقاً. فالنصر بالمفهوم القرآني والنبوي، هو أن تكون كلمة الله هي العليا. وهنا تكمن الفجوة؛ فبينما كان الشارع السوري يصدح بشعارات "قائدنا للأبد سيدنا محمد" و"الأمة تريد خلافة إسلامية"، يرى الغيارى من أهل الشام وغيرها أن القيادة الجديدة بدأت تميل نحو الثورة الأمريكية المضادة التي تسعى لاحتواء الثورة وتفريغها من هويتها الإسلامية كما كان ذلك دأبها منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة المباركة.
الثوابت الثلاثة: أين نحن منها؟
يمكن قياس مآلات الثورة السورية اليوم من خلال ثلاثة ثوابت رفعها الثوار منذ اليوم الأول:
- إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه:
يجمع المنصفون أن المطلوب لم يكن مجرد هروب الرأس، بل اقتلاع المنظومة كاملة. ولكن الواقع اليوم يشير إلى بقاء الكثير من الهياكل القضائية والتربوية والسياسية كما هي، بل وحماية الدولة الحقيقية للنظام القديم من أن تسقط في أيدي المخلصين. فقد بقيت البنية السياسية للنظام، وبقيت البلاد تُحكم بالكفر، لا كما كان يتطلع كل من ضحى ليرى هذا الواجب محققا في الشام.
- إنهاء نفوذ الدول الأجنبية:
تعاني سوريا اليوم من مرتع للنفوذ الدولي والإقليمي؛ من أمريكا وروسيا إلى إيران وتركيا. ولا شك أن الضعيف الذي لا يمتلك مشروعه المستقل لا يفاوض بل يقدم تنازلات، وهو ما يظهر في الغزل السياسي مع النظام الدولي والالتزام باتفاقيات دولية قديمة مثل اتفاقية فك الارتباط لعام 1974. ومن نافلة القول إن الوحش الغربي لا يريد خيرا للشام، بل كان يحذر ليل نهار من وصول الإسلاميين إلى السلطة. ويعلم الجميع أن الغرب هو من دعم الأسد ومنع سقوطه عدة مرات، بل أمريكا هي من أدخلت روسيا وحزب إيران وغيرهما إلى الشام لحماية نفوذها ومنع المد الإسلامي من أن يصل إلى الحكم في الشام، فكيف يكون حليفا مخلصا وموضع ثقة القيادة الجديدة وهو أعدى أعدائها؟!
- تحكيم الشريعة وإقامة الخلافة:
هذا هو الثابت الذي يشكل الكابوس الأرعب للغرب. فالغرب بلسان لافروف وقادته، صرح مراراً بخشيته من وصول الأيدي الخطأ (الإسلاميين) إلى السلطة. واليوم، يبرز قلق كبير من تبديل المناهج التعليمية، وتقليص حصص التربية الإسلامية، وملاحقة الدعاة والمجاهدين في السجون، تماماً كما كان يفعل النظام السابق.
جدلية الحكمة والمبدئية:
يرد البعض على هذه المخاوف بضرورة اتباع سياسة الثعلب أو التدرج، مستلهمين من السيرة النبوية ضرورة الصبر في مراحل الاستضعاف. إلا أن هذا المنطق يواجه نقداً لاذعاً؛ فالنبي ﷺ في مكة، وإن لم يحمل السلاح، إلا أنه رفض المداهنة ورفض الدخول في شراكة سياسية مع دار الندوة، تحكم بغير ما أنزل الله.
كما أنه رفض بشدة تسلم الحكم المشروط أو الناقص ورفض إلا أن تكون الدولة التي يتسلمها كاملة السيادة خاضعة حصرا لشرع الله لا لسواه، ثم طبق نظام الإسلام بشكل فوري جذري كامل مكسرا أصنام الجاهلية ومنهيا عهدها إلى الأبد.
إن الذكاء السياسي لا يعني الارتماء في أحضان الشيطان الغربي أو قبول العلمانية الجديدة تحت مبررات الضرورة. فالخطر الحقيقي يكمن في أن تتحول القيادة الجديدة إلى حكومة تصريف أعمال للغرب، تنفذ قرارات النظام الدولي وتغازل كيان يهود لضمان بقائها، وهو ما يمثل خيانة لدماء مئات الآلاف من الشهداء.
هوية الشام: هل تغيرت؟
رغم محاولات الطمس والتعمية التي تمارسها القوى السياسية والإعلام المأجور، إلا أن هوية الشام تظل عصية على الانكسار. فالهتافات التي خرجت من درعا وحمص والغوطة، وحتى قلب دمشق، تؤكد أن المحرك الحقيقي للشارع كان ولا يزال هو المسجد.
لقد أثبتت أحداث العام الماضي أن الأمة قد اهتدت إلى هويتها من خلال مرارة القصف والجوع والتهجير، وأن هذه الهوية التي عُمّدت بالدماء لا يمكن أن تطمس بجرة قلم أو باتفاق أمني خلف الكواليس. الشارع السوري اليوم يراقب، وهو يمتلك من الوعي ما يجعله يفرق بين المخلصين وبين من يحاولون سوقه في حظيرة التطبيع والتسليم.
رسالة إلى أهل الشام: تداركوا دينكم
في الختام، هي صرخة تحذيرية من رائد مخلص لا يكذب أهله:
إن المعركة الحقيقية اليوم هي معركة الوعي. فلا يمكن أن تكون نهاية هذه التضحيات العظيمة هي العودة إلى أحضان النظام الدولي المجرم المستبد، بل يجب استئناف الثورة لاستعادة القرار المسلوب.
إن المطلوب اليوم من أهل الشام والمشايخ والدعاة هو إعلاء الصوت برفض كل الطروحات الغربية، والتمسك براية الإسلام، وعدم الانخداع بسحنات إسلامية تبرر الحكم بغير ما أنزل الله بمبررات واهية. الشام عقر دار المؤمنين أمانة في أعناق أبنائها، وعزها لن يكون إلا بدينها الذي نصرها في الميدان، وينصرها في منصة الحكم والسياسة بإذن الله.
إن ذكرى سقوط الطاغية ليست مجرد احتفال بحدث مضى، بل هي نقطة انطلاق لمواجهة طغيان دولي جديد يحاول سرقة الثورة، فهل ينجح أهل الشام في تدارك شامهم وإعادتها إلى طهرها الأول؟
بقلم: الأستاذ أحمد الصوفي (أبو نزار الشامي)






















رأيك في الموضوع