قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في كلمة أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ الفرنسية يوم 10/9/2025 "خطوط التماس من أجل نظام عالمي جديد قائم على القوة ترسَم حاليا. لذا، نعم، على أوروبا أن تقاتل، لمكانها في عالم حيث العديد من القوى الكبرى مناقضة أو معادية بشكل صريح لأوروبا.. ينبغي أن تكون هذه لحظة استقلال أوروبا.. والجانب الشرقي لأوروبا يبقي كل أوروبا آمنة من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. لذلك علينا الاستثمار في دعمه. وأوروبا ستدافع عن كل شبر من أراضيها".
هذه التصريحات، تأتي بعدما طرحت دير لاين في 19/3/2025 مشروع "الكتاب الأبيض" للدفاع عن أوروبا "يتضمن إطلاق مشروع ضخم لبناء صناعتها الدفاعية بمبلغ 800 مليار يورو لإعادة تسليح القارة خلال أربع سنوات. ويفضل إنتاج الأسلحة داخل أوروبا.. وروسيا تشكل تهديدا وجوديا لأوروبا.. إعطاء الأولوية في ضمان قدرة أوكرانيا على مواصلة التصدي للهجمات الروسية بعدما علّقت أمريكا دعمها. فتشمل تزويد أوكرانيا بنحو 1,5 مليون قذيفة مدفعية وأنظمة دفاع جوي وتدريب قوات وربط أوكرانيا بالتمويل العسكري الأوروبي وتوسيع ممرات التنقل العسكري الأوروبي لتشملها" ونص على أنه "لا يمكن لأوروبا اعتبار ضمانة الأمن الأمريكية أمرا مفروغا منه، ويجب عليها زيادة مساهمتها بشكل كبير في الحفاظ على الناتو الذي لا يزال حجر الزاوية في الدفاع الجماعي في أوروبا"، وأن "اعتماد أوروبا على القدرات العسكرية الأمريكية يشكل خطرا الآن، بعدما أعادت أمريكا النظر في نهجها".
وجاءت هذه التصريحات والأعمال بعدما أعلنت أمريكا أنها ستتخلى عن التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا. فبدأت أوروبا تفكر في تطوير صناعتها العسكرية والعمل على استقلاليتها عن أمريكا. وتحاول تقوية علاقاتها مع الصين لتعزز استقلاليتها والتفاهم مع روسيا ولكن أمريكا تعمل على الحيلولة دون ذلك.
ولهذا قام الرئيس الفرنسي ماكرون مع دير لاين بزيارة الصين في نيسان 2023 فهاجمه قادة أمريكا آنئذ قائلين "إنه يتذلل للصين"، وإن "زيارته تقوض الجهود الأمريكية الرامية لاحتواء نفوذ الصين". ورد ماكرون عليهم دفاعا عن موقفه وموقف الأوروبيين رافضا التبعية لأمريكا قائلا: "أن تكون حليفا لا يعني أن تكون تابعا، ولا يعني أنه لم يعد من حقك أن يكون لك تفكيرك الخاص".
ولكن تحقيق هذه الاستقلالية ليس سهلا؛ فحجم التبادل التجاري بين أوروبا وأمريكا والذي يبلغ 1,2 تريليون دولار سنويا يعادل 4 أضعاف حجمه مع الصين، عدا الاستثمارات الأمريكية سواء المالية أو المشاريع في أوروبا بنحو 2,3 تريليون دولار. فهيمنة أمريكا اقتصاديا على أوروبا، جعلتها تتغلغل في الأوساط الاقتصادية والسياسية والإعلامية. فليس من السهل التخلص من هذه الهيمنة.
وكذلك فإن "أمريكا تنشر بأوروبا وسواحلها نحو 100 ألف جندي و150 طائرة حربية و140 سفينة و3 قواعد لتخزين الأسلحة النووية و100 صاروخ نووي". (المركز البحثي الأمريكي). فقد ارتبطت أوروبا بأمريكا واعتمدت عليها في الدفاع منذ الحرب العالمية الثانية. فلم تستطع أن تقيم لها سياسة دفاع مشتركة وجيشاً مستقلاً رغم محاولتها، ويبقى الناتو هو السياسة الدفاعية المشتركة حتى الآن. ولكنه أصبح على المحك لأن أمريكا غير مستعدة للدفاع عن أوروبا، وشعارها "أمريكا أولا". وحرب أوكرانيا دليل على ذلك.
وإذا ما هوجمت دولة عضو في الناتو ولم تقم أمريكا بالدفاع عنها فإنه يصبح مهددا بالانهيار. وقد ذكر ماكرون عام 2019 أن الناتو "ميت سريريا"، فالثقة به ليست كبيرة.
فأوروبا لا تستطيع حاليا وفي ظروف الحرب مع روسيا أن تستغني عن كل ذلك بهذه السرعة. وهذا يتطلب وقتا أطول من 4 سنوات. فاتحادها يضم 27 دولة ليست متجانسة، وإن بعضها متشاكسة؛ كل دولة تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى وتتمسك بقوميتها، وفي الدرجة الثالثة تأتي الرابطة الأوروبية، ولديها مشاكلها الداخلية والاقتصادية والسياسية. وليست مستعدة لأن تدفع للدفاع أكثر. حتى التي عندها فائض مالي كالنرويج غير مستعدة لذلك. فتتحكم الأنانية في كل دولة لكونهم رأسماليين يجعلون المنفعة أساسا لتفكيرهم ومقياسا لأعمالهم.
فكل ذلك يحول دون وحدة قرارها ومن ثم استقلاليتها في الوقت الراهن، ما يجعل أمريكا تتفرد بكل واحدة من دولها سواء بإغرائها أو بخداعها أو بتهديدها.
وهناك في كل دولة من دولها أحزاب قومية متطرفة ضد اتحادها وتسعى للاستقلالية عنه، وأمريكا تشجعها. ولهذا فإن إيطاليا بقيادة ائتلاف الأحزاب اليمينية برئاسة ميلوني تقف في وجه الانفكاك عن أمريكا وتتشاكس مع فرنسا بصورة رئيسية، ومثلها المجر والتشيك.
ورسمت ألمانيا استراتيجية أمنية جديدة خاصة بها عام 2022، فرصدت 100 مليار يورو لتطوير صناعتها العسكرية. وبالفعل بدأت مؤخرا تدعم شركات صناعة الأسلحة وتحضها على تطوير السلاح النوعي، وتتصل بكافة المصانع المدنية لتستعد لصناعة المنتوجات العسكرية، وتسعى لفرض التجنيد الإجباري على الشباب، وتعمل على تقليص المساعدات الإنسانية لتزيد من ميزانية الحرب. وفي آب/أغسطس 2024 أعلنت عن إقامة أول قاعدة عسكرية دائمة بنحو 4800 عسكري و2000 مركبة عسكرية في ليتوانيا لمواجهة روسيا التي تهدد دول البلطيق.
فالظروف تجبر أوروبا على أن تعتمد على نفسها وتعزز قوتها وتسعى لتوحدها واستقلاليتها. ولكن تجاوزها لهذه التحديات التي ذكرناها ليس سهلا، وليس في مدة قصيرة، وربما يتحقق على المدى المتوسط أكثر من أربع سنوات.
وحدث أن توحدوا في وجه القوة الخارجية التي تهددهم، كما حصل في مواجهتهم للفتوحات الإسلامية على عهد الخلافة العثمانية. وتوحدوا في وجه الاتحاد السوفيتي، ولكن أمريكا سيطرت عليهم وفرضت قيادتها عليهم وجعلتهم محتاجين إليها، فكانت استعانتهم بها انتحارا سياسيا فوقعوا صرعى لم يتمكنوا من التخلص منه حتى اليوم.
ولا نعني بالتوحد أن يصبحوا دولة واحدة، وهذا مستبعد، فاتحادهم هش. ولكن التوحد هو مواجهة القوة الخارجية التي تهددهم جميعا كروسيا حاليا.
والاعتماد على ألمانيا وفرنسا كونهما القوتين الكبيرتين عسكريا واقتصاديا في الاتحاد، ومن خارجه تدعمهما بريطانيا المضطرة لذلك لمواجهة روسيا وأمريكا. ولكن ذلك محفوف بالمخاطر، فهذه القوى الثلاث لا تخضع إحداها للأخرى وتحاول كل منها استغلال الظروف لتتصدر المشهد. فيحمل توحدهم في ثناياه بذور التنافس والصراع في المستقبل، وخاصة بعد دحر القوة الخارجية أو إبعاد خطرها.
ويجب على الواعين السياسيين العاملين لإقامة الخلافة أن يراقبوا الأوضاع الدولية ويلاحظوا التناقضات في المواقف بين الحلفاء الغربيين، والعمل على الاستفادة منها، ليتمكنوا من دفع شرهم عن أمتهم وليتمكنوا من إقامة دولتهم دولة الخير والهدى، ومن ثم حمله إلى أولئك ولغيرهم.
رأيك في الموضوع