أدلى رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، تصريحات مريبة حين أعلن أنّ المفاوضات الجارية مع كيان يهود قد تُفضي إلى اتفاق أمني في الأيام المقبلة. واعتبر أنّ مثل هذا الاتفاق "ضرورة"، شريطة أن يحترم وحدة الأراضي السورية، ويخضع لرقابة الأمم المتحدة. كما كشف أنّ الطرفين كانا على بُعد أيام قليلة من التوصل إلى أساس لهذا الاتفاق في تموز/يوليو الماضي، لولا التطورات في محافظة السويداء التي عطّلت المسار.
إنّ مجرّد طرح فكرة اتفاق أمني مع كيان يهود يمثّل تراجعاً وانحرافاً عن ثوابت الأمة ابتداءً، حيث الصراع بينها وبين يهود صراع عقدي تاريخي كونهم محاربين أصليين مغتصبي أرض من أراضي المسلمين وأهل الشام من جهة ثانية كونهم جزءاً لا يتجزأ من الأمة، وهناك أراضٍ يحتلها يهود قديما وأراضٍ جديدة بعد فرار رأس النظام بشار، وكون يهود ارتكبوا مجازر تجاه أهل الشام من درعا للكسوة وغيرها. كما وأنه يتعارض مع ثوابت ثورة الشام والشعارات التي نادى أهل الشام بها خلال ثورتهم أن القدس وغزة بعد دمشق. بالإضافة إلى أن هذا الاتفاق يعتبر خيانة لدماء الشهداء الذين قضوا وهم يواجهون هذا الكيان المغتصب.
فكيان يهود لم يكن يوماً جاراً يرغب بالأمن والاستقرار، بل هو مشروع استيطاني توسعي، لم يتوقف منذ اغتصاب فلسطين حتى اليوم عن التآمر على الأمة واحتلال أرضها وقتل أبنائها. فكيف يستقيم أن يُمنح صكّ براءة عبر اتفاق أمني يشرعن وجوده ويمنحه موطئ قدم إضافياً داخل العمق السوري؟!
إن ما يسمى اليوم "ضرورة" ليس سوى إعادة إنتاج للمنطق الذي سوّقته أنظمة وظيفية انهزامية عبر العقود الماضية، حين رفعت شعار "السلام خيار استراتيجي"، فانتهت إلى اتفاقيات أوسلو ووادي عربة، التي لم تجلب لشعوبها أمناً ولا سلاماً، بل ذلاً وتبعية وانكشافاً استراتيجياً.
إنّ أي حديث عن "ضرورة" الاتفاق مع يهود، لا يعدو كونه غطاءً للاستسلام وضماناً لمصالح القوى الدولية الراعية لمشروعهم.
وأما القول إن الاتفاق مع يهود كان سيتم لولا أن أحداث السويداء قد عطلته فهل يصح؟! وكأنّ أزمة الداخل السوري تُستخدم كورقة ضغط لتسريع التنازل ليهود! إنّ ربط الملف الداخلي بمشروع يهود يعد جريمة سياسية مضاعفة، إذ يُراد من خلالها إيهام الرأي العام بأنّ الأمن الداخلي لن يستتبّ إلا برضا كيان يهود. في حين إنّ الحقيقة الصارخة تؤكد أن الخطر يكمن في التدخلات الخارجية ومشاريع التقسيم، التي كان يهود دائماً في قلبها.
وبالنظر والتتبع لما حصل ويحصل فإنه لا يمكن فصل هذا المسار عن أمريكا خاصة وأنها هي التي تصدرت لاستلام ملف السويداء، وهي التي تحدثت في أكثر من مناسبة عن اتفاق أبراهام، نعم أمريكا هي حاملة مشروع أبراهام وهي التي تدفع منذ سنوات باتجاه هندسته وترتيبه وإدخال المنطقة في دائرة التطبيع الشامل مع كيان يهود. واليوم، يراد لسوريا أن تُدفع إلى الحلقة نفسها، لكن بثوب "اتفاق أمني" يُسوّق باعتباره حاجة داخلية. والواقع أنّ أمريكا لا ترغب في استقرار سوريا بقدر ما تسعى لتكون ساحة انكشاف أمني، تخضع فيها الأجواء والحدود والقرارات لرقابة كيان يهود وشروطه.
إن هذه التداعيات الخطيرة، أي الاتفاق الأمني مع يهود، يعني:
- ضرب مفهوم السيادة حيث تصبح سوريا مستباحة إقليمياً ودولياً، كما أنه يفقدها القدرة على الحديث عن قضايا الأمة وما يحدث فيها خاصة إن كان الطرف الآخر فيها يهود، فلن يكون هناك حديث عن التحرير ولا عن رفع الظلم ولا عن العزة، بل كل المواقف ستكون شجباً واستنكاراً وطلباً لضبط النفس!
- تشريع وجود كيان يهود، وإعطاءه اعترافاً ضمنياً بدوره في أمن المنطقة، كما سيظهر الدولة كسلطة خاضعة لا تملك من أمرها شيئا.
لقد كان الأجدر بأحمد الشرع أن يصرح بأن الثوابت لا تُمسّ، وأن الثابت الأصيل في وجدان الأمة أن يهود كيان غاصب، لا يُعطى شرعية ولا يُؤتمن على أمن أو حدود. فهذا الكيان غدار بكل تفاصيله مجرم بكل جزيئاته. وعليه فلتعلم الإدارة الحالية أن أي محاولة لتجميل صورته عبر اتفاقيات أمنية أو تفاهمات جزئية إنما تعني التفريط بالثوابت وبيع المواقف بأبخس الأثمان، ولا يملك أي سياسي مهما كانت صفته تفويضاً للتنازل عن هذه المبادئ.
إنّ سوريا اليوم أمام مفترق خطير: إمّا أن ترفض أي تسوية مع كيان يهود، وإمّا أن تنزلق إلى اتفاقيات تبقيها كما كانت تحت حكم آل أسد تابعا ذليلا لأمريكا. وعلى الجميع اليوم أن يتحمل مسؤوليته تجاه هذا الأمر وأن يتخذ موقفاً وأن يرفع صوته عالياً رافضا لهذا الاتفاق، فما سيتم تمريره تحت لافتة "الأمن" ليس سوى غطاء للهيمنة التي يسعى لها كيان يهود.
واعلموا أن الأمن الحقيقي لا يُستورد من عدوّ غاصب، بل يُصنع صناعة بالتمسّك بالثوابت أولاً، ثم بالاعتماد على الحاضنة التي قدّمت التضحيات الجسام.
ولتعلموا أن التاريخ شاهد على أن كل اتفاقيات الذل سقطت، وسقط معها مَن عقدها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع