صرح الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط "إنهم يخوفوننا من تركيا وتمدد نفوذها، ليت السلطنة العثمانية تعود، لقد كانت توحد العرب والمسلمين"، وقد يُنظر لهذا التصريح على أنه غريب من نوعه في الرغبة بعودة نموذج السلطنة العثمانية التي تعتبر نموذجاً ممتداً لفكرة الخلافة التي تجعل أحكام الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع.
وقبل البحث فيما قد يكون خلف هذه التصريحات، فإن هناك أمرين في عمل جنبلاط وكلامه السياسي، الأول: أن المتابع لجنبلاط في العمل السياسي قد لا يستغرب ذلك كثيراً، فمن المعروف أن جنبلاط يستخدم ما يمكن تسميته النقد الذكي والمقارنات والمقاربات التاريخية في عرضه للقضايا الإقليمية والدولية، وغالباً ما يستخدم التاريخ كأداة لتوضيح وجهات نظره، ويستخدم مرجعيات ثقافية يمكن وصفها بالعميقة في الرد على خصومه أحياناً، وليس آخره رده على تهجم المبعوثة الأمريكية مورغان أورتاغوس عليه بسبب تصريحاته التي قال فيها: "شروط أورتاغوس على لبنان مستحيلة"، فكتبت أورتاغوس "المخدرات مضرة وليد"، فما كان من جنبلاط إلا أن استعاد رواية بعنوان "الأمريكي القبيح" منذ سنة 1958م، وفيلماً أنتج لها سنة 1963م، وتحكي الرواية قصة أمريكي يسافر إلى دول جنوب شرق آسيا في مهمة لحفظ السلام، لكن قدرته التحليلية لا تسمح له برؤية الوضع السياسي إلا بصورة مبسطة وهي "صراع بين الشيوعية والديمقراطية"، ولدى تمكنه أخيراً من رؤية الاضطرابات السياسية كأمر أكثر تعقيداً، يكون الأوان قد فات، وعلق في تغريدته بقوله فقط (الأمريكي القبيح) مصاحباً بوسم مورغان أورتاغوس!
أما الأمر الثاني: فإن جنبلاط مشهور وملازم له تقلبات مواقفه السياسية العلنية بحسب الظروف السياسية القائمة، دون أن يضع أي اعتبار لأي وضع سياسي سابق كان عليه، وأمثلة ذلك كثيرة، فمثلاً بعد اغتيال والده كمال جنبلاط سنة 1977، دخل السياسة واتهم سوريا باغتياله، ثم تقارب معها بشكل كبير وصل لحد دخوله سوريا ولقاء الهالك حافظ أسد. وفي سنة 1989 وافق على اتفاق الطائف ودخل في إطاره رغم انتقاده الشديد له سابقاً. وعاد عام 2005 وشارك في تأسيس حركة 14 آذار بعد اغتيال رفيق الحريري مطالباً بانسحاب سوريا من لبنان، وأظهر عداءً علنياً للنظام السوري لحد الشتم. وعام 2009 بدأ بالابتعاد عن 14 آذار وانضم تدريجياً إلى معسكر حزب إيران اللبناني وحركة أمل. ثم عام 2011 أيد الثورة السورية ووصف نظام الأسد بالوحشي، لكنه عاد لاحقاً لتغيير موقفه... وهناك تقلبات كثيرة في مواقفه تتسم بالميكيافيلية والبراغماتية، وليس آخرها، برغم انتقاده لحزب إيران في لبنان وهيمنته على الدولة، إظهاره دعماً للمقاومة، مشيراً إلى تغييرات في موازين القوى الإقليمية.
وعوداً على موضوع تصريحات جنبلاط بشأن السلطنة العثمانية، فإن في السياسة الإقليمية والدولية أوضاعاً قد تكون هي المبرر لمثل هذه التصريحات في مثل هذا الوقت، فظهور الانسجام والود الذي تحدث به ترامب عن أردوغان وتركيا خلال لقائه مع نتنياهو، وإظهاره ودّاً تجاه تركيا في مناسبات عدة، والذي انعكس واقعاً على الأرض في توقف نتنياهو عن ضرباته تجاه سوريا بعد أن طالبه ترامب بجعل علاقته منطقية مع تركيا على الأراضي السورية! ما قد يعكس توازنات سياسية جديدة في المنطقة، وتوزيعاً جديداً لأدوار القوى الإقليمية وعلى رأسها تركيا، يفهمها جنبلاط جيداً، ما يجعله يرى في هذا التقارب فرصة لإعادة التفكير في العلاقات الإقليمية، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، ومع ملاحظة تقارب جنبلاط مع النظام السوري الجديد، فإن هناك احتمالاً أن يكون تصريحه مرتبطاً بالتغيرات السياسية في سوريا، خاصة مع النظام الجديد الذي يتمتع بعلاقات عميقة مع تركيا، التي لعبت دوراً كبيراً في (دعم) المعارضة السورية، والآن، مع سقوط أسد، أصبحت في موقع يسمح لها بالتأثير على مستقبل سوريا دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهو ما قد يكون جزءاً من السياق الذي دفع جنبلاط لإدلاء ذلك التصريح محاولاً استغلال هذا التقارب التركي السوري الجديد كفرصة لتعزيز موقعه السياسي. وبالمحصلة فإن جنبلاط معروف بتقلباته السياسية وقدرته على التكيف مع المتغيرات، وغالباً ما يستخدم تصريحاته لإرسال رسائل متعددة الأطراف، فقد يكون هذا التصريح في هذا القالب الثقافي التاريخي كعادته، محاولة منه للتقرب من تركيا أو لإظهار دعمه لفكرة الوحدة الإقليمية التي قد تنشأ من هذا التقارب، خاصة إذا كان يرى أن ذلك يخدم مصالحه وسعيه لإعادة تموضعه في المشهد السياسي اللبناني والإقليمي.
هذا من ناحية تصريح جنبلاط.. إلا أن كل منصف من كتبة التاريخ أو قارئيه يدركون أن الدولة الإسلامية من لدن الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة وصولاً إلى دولة الخلافة العثمانية، لم يظهر منها في طول تاريخها إلا رعاية شؤون كل رعاياها بغض النظر عن طوائفهم، فالخلافة الإسلامية كانت وستكون بعد قيامها قريباً بإذن الله نظاماً سياسياً يوحّد المسلمين تحت راية واحدة بغض النظر عن الفوارق الطائفية والعرقية، بل إن الخلافة تكاد أن تكون هي النظام السياسي الوحيد الذي استطاع تحقيق وحدة سياسية واقتصادية بين شعوب مختلفة، تقوم العلاقات بين أفراده وتقويمها على أساس التقوى تحقيقاً لقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، وقول الرسول ﷺ في خطبة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ واحدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، أَلَا لَا فَضْلَ لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَلَا قَدْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ». فإنه وإن كان لكلام جنبلاط أبعاد سياسية تراعي توجهات سياسية محلية وإقليمية ودولية، إلا أن فضائل وجود الخلافة وسلطانها مما لا يمكن إنكاره حتى ممن قد يعاديها ضمناً، وعما قريب سيعلم العالم أجمع كم فاته من الخير بغياب سلطان المسلمين الذي هو سلطان الله على أرضه التي استخلفنا فيها، حين يرون العدل الحقيقي كما أراده الله عز وجل، ماثلاً أمامهم في كيان الدولة الإسلامية؛ الخلافة الثانية على منهاج النبوة، وعد الله عز وجل وبشرى رسوله ﷺ.
رأيك في الموضوع