اكتشف المستعمر الفرنسي لأول مرة الفوسفات بالمتلوي من ضواحي قفصة عام 1883 ثم تتالت الاكتشافات فيما جاورها ليطلق على المنطقة الحوض المنجمي للمخزون الهائل الذي تحتويه، وقد انطلق في استغلال هذه الثروة بنقلها إلى ميناء صفاقس ومن ثم تحويلها إلى فرنسا، ثم أنشأ السكك الحديدية لتسريع الاستنزاف والنهب، ولكن بعد أن غادر البلاد ما كان ليذر هذا الكنز لأهل البلاد فقد أقره المقبور بورقيبة عميله على تونس في اتفاقيات عدة تضمن استمرارية استئثاره بالثروات الباطنية كالملح والغاز والبترول والفوسفات موضوع بحثنا، وبقيت هذه العقود في طي الكتمان إلا من بعض التسريبات التي تفوح خزيا وعارا على دولة الحداثة ومؤسسها الذي يدعي زورا وبهتانا الزعامة والتحرير.
في سنة 1972 وتحت وعود براقة مثل الثورة الصناعية وإنهاء أزمة البطالة أسس سيئ الذكر بورقيبة المجمع الكيميائي بقابس والذي كان ظاهره تمييزا إيجابيا ومكرمة لأهل قابس وباطنه مؤامرة خسيسة تهدف إلى تدمير قابس واحة وبحراً، اغتيالا للبيئة وسكانها، وهذا المجمع يهدف إلى معالجة الفوسفات وتوفير الأسمدة الفلاحية الكيميائية والحامض الفسفوري والحامض الكبريتي إضافة إلى بعض المنتجات الفلاحية الأخرى المعدة أساسا للتصدير. ولم يمض وقت بعيد حتى يكتشف أهل قابس الكارثة التي حلت بهم من وريث الاستعمار، فالغازات السامة لا تفتأ تملأ سماءهم؛ فمن ثاني أكسيد الكبريت إلى الأمونياك إلى أحادي أكسيد الكربون إلى الأوزون... وكلها ذات آثار قاتلة للإنسان، والنوع الواحد منها كفيل وحده بالقضاء على البشر، وإن لم يقتل فهو يسبب أمراضا وعاهات كارثية. وليت الأمر انتهى عند جريمة الغازات السامة بل إن هناك مخلفات لعملية معالجة الفوسفات والمتمثلة في الفوسفوجيبس وهو مزيج من بقايا الفوسفات الممزوج بالماء وعناصر كيميائية تحت درجة حرارية عالية ليلقى هذ الخليط اللزج والشبه طيني في البحر، والذي، بحسب المعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار في دراسة أنجزها سنة 2022، فإن الكمية الملقاة في البحر تناهز سبعة ملايين طن، أي حوالي عشرين ألف طن يوميا، الأمر الذي أدى إلى تدمير الغطاء النباتي الذي يمثل الملاذ والحاضنة الغذائية للأسماك وخاصة الرخويات للتزاوج والتكاثر. وهكذا بعد أن كان خليج قابس يعج بأنواع مختلفة من الكائنات البحرية تفوق الـ300 نوع أصبح العدد الإجمالي لا يبلغ الـ50 صنفا، وهذه المادة الخطرة التي تراكمت في البحر غطت، حسب دراسة باللغة الفرنسية بعنوان "نمذجة انتشار الفوسفوجيبس في خليج قابس"، غطت مساحة تفوق الـ60كم مربعاً بسُمك يستحيل معه العيش لكثير من الكائنات، وقد لوحظ نفوق عدد كبير من السلاحف البحرية على شواطئ المنطقة ورحيل الكثير من أنواع الطيور المهاجرة التي كانت تحط رحالها بالشواطئ. ومما زاد الطين بلة أن مادة الفوسفوجيبس تحتوي على مواد خطرة كالرصاص والزئبق والراديوم، وعند ارتفاع الحرارة صيفاً تفرز غازات سامة تعكر الأجواء.
ومن الآثار السلبية أيضا لهذا المشروع القاتل استنزافه للمائدة المائية حيث إن عملية معالجة الفوسفات لإنتاج الأسمدة الكيميائية تحتاج إلى كميات ضخمة من الماء ما أدى إلى نضوب أغلب العيون السطحية التي تميزت بها واحة قابس منذ القدم... هذا فيض من غيض هذه الكارثة والمجال لا يتسع لذكر المزيد.
أما الأسباب التي أدت إلى انفجار الوضع في قابس وخروج أهلها في هبة منقطعة النظير، فهي النتائج الكارثية التي أفرزها هذا المجمع حيث إنه لم يترك بيتا في قابس إلا وقتل أحد أفراده بالسرطان الذي تعددت أشكاله؛ سرطان الرئة، الحلق، الجلد، الكلى، البروستات، الثدي، الدم، وأمراض أخرى عديدة منها تأخر الإنجاب والعقم والتشوهات الخلقية، ولكن كل هذه الأمراض تأخذ حيزا زمنيا في المعاناة، ورغم أن تورط القاتل الصامت في هذه الجرائم يكاد يكون مقطوعا به إلا أن الجريمة الأخيرة التي كان أثرها مباشراً على صحة أبنائنا التلاميذ في المدارس والإعداديات المجاورة للمجمع، خلقت حالة من الغليان. والغريب أن احتجاجات الأهالي على هذه الجرائم التي تكاد تنهي حياة وآمال صغارهم قوبلت باللامبالاة وواصل مجمع الموت نشاطه كأن شيئا لم يكن، ليسقط في الغد ضحايا جدد وتعجز رجالات الحماية المدنية عن تغطية الطلبات وتقف المستشفيات عاجزة عن توفير الأكسجين لإنعاش المصابين! ليعقب ذلك خروج مسيرة ضخمة قاربت الخمسين ألفاً تطالب بإسقاط مجمع الموت، وكانت مسيرة سلمية خرج فيها الناس بتلقائية جمعت الكبار والصغار والنساء والرجال، ولكن السلطة كان لها رأي آخر فعمدت إلى إطلاق الغازات واستعملت العنف لتفريقهم وإخماد أصواتهم، وعمدت إلى حملة إعلامية تشويهية رافقتها حملة اعتقالات واستفزازات ليلية ما دفع الشبان إلى ردة الفعل بغلق الطرقات ليلا وإشعال النيران ومهاجمة قوات الأمن.
على إثر هذا الموقف المتعجرف للسلطة التي ظنت أنه كفيل بإخماد صوت أهل قابس قرر الأهالي يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر، هذا اليوم التاريخي، إضرابا عاما تعطلت فيه كل المرافق وتوقفت فيه الحياة الاقتصادية بالتمام، وتوج اليوم بمسيرة فاقت أعداد المشاركين فيها المائة وثلاثين ألفاً، سارت تهتف بصوت موحد "الشعب يريد تفكيك الوحدات"، ولم تحدث خلالها أية تجاوزات وعبرت عن رقي الناس واستماتتهم في تحقيق مطلبهم الموحد. وأمام هذا الحراك الذي فاجأ الجميع وعلى رأسهم السلطة ما اضطرها إلى الاعتراف بمشروعية المطالب، وقال الرئيس إن قابس تتعرض إلى جريمة بيئية وأن هناك اغتيالا للبيئة، وغيره من الكلام الذي لا يقدم حلا، كلام يدل على الدهشة والعجز ينتظر الأيام وتتاليها ليخمد الحراك وتنتهي تلك الحماسة، ولكن هيهات هيهات فكما قال هو نفسه في إحدى المناسبات "العصفور الذي غادر القفص لا يمكن أن يرجع إليه"، وهذا هو حال أهل قابس الذين قرروا إنهاء تجمع الموت.
بقي أن نشير إلى أن أيادي الاستعمار دائما حاضرة في كل معركة، وأن الوثائق والأدلة تؤكد أن هذه الدولة منزوعة السيادة والقرار، ويكفي أن ندخل للموقع الرسمي لمجمع روليا وهو عبارة عن مؤسسة تضم 109 شركات موزعة حول العالم مختصة في الغذاء الحيواني والسماد الفلاحي لنجد في صفحتهم أنه في سنة 1963 تم دمج المايرل - وهو عبارة عن طحالب بحرية ذات فاعلية في تخصيب التربة - بفوسفات قفصة لتنتج أفضل مادة تسميد في العالم، وحديثها هنا حديث المالك المتصرف في ماله، ثم يضيف أن المؤسسة أنشأت في قابس عام 2003 مصنعا لإنتاج الأسمدة بلغ إنتاجه عام 2022م 26 ألف طن، ما يقابله مليون و40 ألف طن فوسفوجيبس ألقيت في بحر قابس.
ختاما هذه الجرائم وغيرها وإن كانت قد تضطر دولة الحداثة للاستجابة للأهالي إن تواصل الضغط، ولكن الحل الحقيقي لا يكون إلا عبر دولة صادقة تمنع وقوع مثل هذه الكوارث من البداية وتهتم بحياة الإنسان قبل أن تجعل همها الربح المادي، وهذه لا تكون إلا دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، عجل الله قيامها.






















رأيك في الموضوع