قالت بوابة الأهرام الأحد 2/11/2025م، إن البنك المركزي المصري أعلن عن طرح أذون خزانة مقوّمة باليورو بقيمة 600 مليون يورو، لأجل عام واحد، بنيّة سداد أذون خزانة سابقة مستحقة في الموعد نفسه. يأتي الطرح في إطار سياسة إدارة الديون قصيرة الأجل بالعملات الأجنبية التي يتبعها البنك لتوفير السيولة اللازمة لسداد الالتزامات الخارجية دون استنزاف مباشر للاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية. ويشير الخبر إلى أن الطرح تم بالتعاون مع وزارة المالية، ضمن مساعي الحكومة لتدبير احتياجاتها التمويلية وسداد التزاماتها في ظل الضغوط المالية وتراجع الإيرادات الدولارية.
أمر اقتراض البنك المركزي المصري أكثر من مليار يورو لسداد ديون مستحقة ليس خبراً عابراً، بل هو صورة صريحة لواقع اقتصادي مأزوم يعيشه النظام في مصر، ومرآة تعكس عمق الأزمة العالمية التي تعصف بالأنظمة الرأسمالية القائمة على الدَّين والربا، وعلى إدارة الاقتصاد بمنطق "التمويل مقابل السيطرة".
منذ سنوات طويلة، أصبح الاقتراض الركيزة الأساسية التي يستند إليها النظام الاقتصادي المصري، حتى صار الدين الخارجي يتجاوز 155 مليار دولار بنهاية عام 2024 وفقاً لتقارير البنك المركزي نفسه، بعد أن كان أقل من 40 ملياراً عام 2010. ويُضاف إلى ذلك مئات المليارات من الجنيهات في صورة ديون داخلية، حتى باتت خدمة الدين (العوائد والأقساط) تلتهم أكثر من 60% من الموازنة العامة للدولة، ما يجعل كل موارد الدولة موجّهة لسداد ما تراكم من قروض سابقة.
ما أعلنه البنك المركزي مؤخراً عن طرح أذون خزانة باليورو بقيمة 600 مليون يورو، وما تداوله الإعلام من اقتراض يتجاوز المليار يورو لسداد ديون مستحقة، ليس إلا تجديداً للدين القديم بدين جديد، أي تدويراً للأزمة وليس علاجاً لها. هذه السياسة تُعرف في الاقتصاد الرأسمالي بسياسة "إعادة التمويل" (Refinancing)، وهي لا تعني سوى ترحيل الأزمة إلى المستقبل مع زيادة الكلفة والربا، بحيث تبقى الدولة أسيرة الدائنين لعقود قادمة.
القروض ليست مالاً يدخل ليُنتج ثروة حقيقية، بل هي عبء يجر وراءه عوائد ربوية مركبة تُستنزف بها الموارد. وهي في الواقع تعني بيع قرار الدولة الاقتصادي والسياسي للدائنين. فكل قرض مشروط بإجراءات إصلاحية تُفرض من صندوق النقد الدولي أو من مؤسسات تمويل غربية، تتلخص دائماً في رفع الدعم، وخصخصة الأصول العامة، وتحرير سعر العملة، ورفع الضرائب، وتخفيض الإنفاق الإنساني.
والنتيجة واضحة للعيان:
تراجع الجنيه المصري بنسبة تفوق 70% خلال سنوات قليلة.
ارتفاع معدلات الفقر إلى أكثر من 30% من السكان وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، والنسبة الحقيقية غير المعلنة تفوق الـ50%.
تضخم جامح تجاوز 35% خلال العام 2025، ما أكل مدخرات الناس ورواتبهم، بل وجهودهم.
هروب الاستثمارات الحقيقية وتحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي يخدم خدمة الدين وسداد الربا.
لقد أفرزت القروض نظاماً طبقياً قاسياً، تُكدَّس فيه الثروة في أيدي قلة من المنتفعين بالمشاريع الممولة بالديون، بينما تتحمل الأمة بأكملها نتائج الفساد وسوء الإدارة.
إن الرأسمالية لا ترى في المال سوى أداة للتربّح ولو على حساب معاناة الشعوب. فهي تُجيز الربا تحت مسميات القروض التنموية والسندات، وتعتبر الدين وسيلة طبيعية لتسيير عجلة الاقتصاد. وبذلك تغدو الدول النامية حقول تجارب لمصارف الغرب ومؤسساته المالية.
في الرؤية الرأسمالية، تُدار الدولة كمؤسسة تجارية لا كراعٍ لشؤون الناس؛ فمقياس النجاح ليس تحقيق الكفاية والعدالة، بل القدرة على خدمة الدين والحفاظ على التصنيف الائتماني! لذلك لا تعالج الرأسمالية الفقر بل تُديره، ولا تسعى لتوزيع الثروة بل لتكريس احتكارها. ولهذا لا عجب أن ترى البنك المركزي يقترض ليُسدّد قرضاً، والحكومة تبيع أصول الدولة لسداد ربا الدين، بينما يُترك الشعب يئنّ تحت وطأة الغلاء والضرائب.
هذه المنظومة لا تنتج إلا عبوديةً مالية، تُكبِّل الشعوب بسلاسل الربا إلى أبد الآبدين. إنها سياسة استعمارية مغلَّفة بالأرقام والتقارير، هدفها إحكام السيطرة على موارد الأمة ومنافذ قرارها.
الإسلام لا يعرف القروض الربوية ولا يقوم اقتصاده على الدَّين العام. فالأصل في النظام الاقتصادي الإسلامي هو توزيع الثروة لا تدوير الديون. وتتحقق الرعاية الحقيقية لشؤون الناس والنهوض بهم عبر تحريك الأموال في الإنتاج الحقيقي لا في أسواق المال والسندات.
في الإسلام، تُموَّل الدولة من الفيء والخراج والأنفال والزكاة ومصادر الملكية العامة، لا من القروض الربوية. فالربا في الإسلام حرب معلنة على الله ورسوله، يهدم المجتمع ويحوّل المال إلى أداة استعباد.
وفي ظل الإسلام، تكون الدولة مسؤولة عن رعاية شؤون الناس، لا عن رعاية مصالح الرأسماليين والمقرضين. فالنظام المالي الإسلامي يجعل من الملكية العامة (كالنفط والغاز والمعادن الكبرى) مورداً أساسياً يُوزع ريعه على الأمة، لا يُباع للأجانب ولا يُرهن للبنوك.
إن الأزمة الاقتصادية في مصر وسائر البلاد الإسلامية ليست أزمة سيولة، بل أزمة نظام وإدارة. فكل ما هو قائم على أساس الرأسمالية سيظل يعيد إنتاج الفقر والديون والتبعية. والحل الجذري لا يكون بترقيع هذا النظام أو بالبحث عن "شروط أفضل للقروض"، بل بإسقاطه وإقامة دولة الإسلام بنظامها الاقتصادي الإسلامي مكانه.
ففيما يقدمه حزب التحرير كمشروع للدولة الإسلامية (الخلافة الراشدة على منهاج النبوة):
- يُلغى التعامل الربوي كلياً، وتُبطل أدوات الدين العام الربوي (السندات والأذون).
- يُعاد توزيع الثروات على أساس الإسلام، وتُستردّ الملكيات العامة من الشركات الأجنبية وغيرها.
- تُدار الموارد وفق أحكام الشرع، بحيث تُوجَّه لإنعاش الزراعة والصناعة والتجارة المنتجة، لا لخدمة الدين أو تمويل العجز.
- يُعاد توجيه السياسة المالية لتكون خاضعة لأحكام الإسلام التي تجعل الإنفاق على الرعية واجباً شرعياً على الدولة، لا منّة من المانحين.
وبذلك يُحرَّر الاقتصاد من ربقة الربا ومن هيمنة المؤسسات الدولية، وتُستعاد السيادة النقدية والسياسية للأمة، فتتحول الأموال من أداة استعباد إلى وسيلة إعمار، ومن وسيلة جباية إلى أداة رعاية.
إن القروض ليست حلاً بل مرض، والاقتراض لسداد الدين القديم ليس إدارة رشيدة بل إعلان إفلاس مؤجل. والرأسمالية بكل أدواتها - من صندوق النقد إلى السندات وأذون الخزانة - لم تُنتج سوى الفقر والغلاء والتبعية. وكلّما ازداد النظام اقتراضاً ازداد ارتهاناً، حتى باتت مقدرات الأمة رهينة الدائنين.
أما الإسلام، فيُقيم نظاماً مالياً قائماً على العدل والكفاية لا على الفائدة والربح، بعيدا عن القروض والديون والضرائب. فلا خلاص لمصر، ولا لأي بلد مسلم، من دوامة القروض إلا بخلع النظام الرأسمالي برمّته، واستئناف الحياة الإسلامية في ظل الخلافة الراشدة التي تحكم بالإسلام، فتقطع دابر الربا، وتعيد المال إلى موضعه الطبيعي: خادماً للإنسان لا سيداً عليه.
إن نجاة مصر لن تكون في القروض ولا ما يصاحبها من قرارات تمكن الغرب من مصر وأهلها، بل إن هذه القروض والديون هي جزء من المرض العضال والأزمة التي تعاني منها مصر وهي حل من حلول الرأسمالية الحاكمة والتي هي أصل الأزمة والداء وأساس كل بلاء، ولا سبيل للنجاة إلا باقتلاعها من جذورها بكل أدواتها ومنفذيها وسياساتها وقراراتها وارتباطاتها وحتى ما أبرمته من عقود واتفاقات ومعاهدات قلعاً لا يبقي منها شيئا، وتسليم الحكم للمخلصين الذين يحملون مشروعا ينسجم مع عقيدة أهل مصر ويرضي عنهم ربهم أولا وفيه الكفاية لهم والقدرة على رعاية مصالحهم بما في الإسلام من أحكام تضمن ذلك وتكفله كفالة تامة.
إن مصر في حاجة إلى الإسلام ومشروعه الحضاري البديل حيث لا قروض ربوية ولا جباية لأموال الناس ولا أكلها بالباطل ولا تفريط في ثرواتهم ولا حماية لناهبيها، بل عدل يعيد للناس حقوقهم ويرعاهم خير رعاية، عدل يشعر به الناس من أول يوم وينعم في ظله الشجر والطير وحتى الحجر في ظل دولة الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر






















رأيك في الموضوع