أصدرت إدارة ترامب يوم السادس من كانون الأول/ديسمبر 2025 وثيقتها الجديدة حول استراتيجية الأمن القومي، والتي كان شعارها الأبرز هو (أمريكا أولاً) ليكون الإطار العام للسياسة الخارجية الأمريكية. وتشكل هذه الاستراتيجية إعلاناً صريحاً عن تحول جذري في طبيعة الدور الأمريكي الجديد، وتحديداً تجاه الحلفاء والتعامل مع ملفات دول العالم الآخر. إذ يرى واضعو الوثيقة أن الولايات المتحدة وصلت إلى مرحلة لا يمكن فيها الاستمرار بتحمل أعباء حماية العالم أو الاستثمار في منظومات خارجية لا تخدم المصالح الأمريكية المباشرة.
إن أبرز ما جاء في الاستراتيجية الجديدة هو الإعلان الرسمي عن "تحديث مبدأ مونرو الذي أعلنه سنة 1823"، وإطلاق ما سمته "ملحق ترامب لمبدأ مونرو" الذي ينصّ على اتّباع مبدأ السلام من خلال القوة. فالمبدأ الذي أعلنه الرئيس مونرو سنة 1823م كان يهدف إلى تحييد النفوذ الأوروبي عن أمريكا اللاتينية مقابل امتناع واشنطن عن التدخل في شؤون أوروبا. وقد كان بمثابة إعلان عزلة أمريكا عن بقية دول العالم، أما الجديد في إعلان اليوم، فهو بالإضافة إلى التأكيد على سيادة أمريكا على النصف الغربي من الكرة الأرضية، ومنع أي منافس خارجي، لا سيما الصين وروسيا وأوروبا وربما إيران، إلا أنه يؤكد على سيادة أمريكا على العالم وتفردها وسيطرتها على مصادر القوة دون تدخلها المباشر في دول العالم ولكن عن طريق علاقات تجارية وصفقات تعاون قائمة على المصالح الأمريكية وامتلاك القوة التقنية والعلمية التي تخولها لقيادة العالم بشكل أشبه ما يمكن تسميته "بالسيادة والقيادة عن بعد".
أما عن علاقة أمريكا بأوروبا وروسيا فإن الرسالة الموجهة لأوروبا هي أنها لم تعد شريكاً لأمريكا وإنما أشبه بإقليم يحتاج إلى إعادة تعريف ضمن منظومة غربية تقودها الولايات المتحدة.
هذا التوجُّه الجديد يقلل من أهمية التدخل الأمريكي بشكل فعَّال لمواجهة النفوذ الروسي، ويعتمد على تحمل الحلفاء الأوروبيين العبء الأكبر في مواجهة الدب الروسي، ما يعني تخلي أمريكا عن مسؤوليتها التاريخية عن أوروبا بعد أن كانت لعقود تُعد حجر الزاوية في حسابات الأمن القومي الأمريكي، هذا الخطاب الجديد كأنه يفكك الركائز التقليدية للتحالف الغربي، بل إنه يحذر بشكل صريح من اندثار حضاري في أوروبا، وهو توصيف غير مسبوق في أدبيات الأمن القومي الأمريكي. فغياب أمريكا جزئياً أو كلياً عن المشهد الدفاعي الأوروبي، تصبح أوروبا مكشوفة أمام تهديدات روسيا التي كثفت حضورها العسكري والسياسي في السنوات الماضية. ومع أن الاستراتيجية لا تعلن تراجع الالتزام الأمريكي تجاه الناتو، إلا أن النبرة العامة للوثيقة توحي بأن أمريكا لم تعد تشرك أوروبا في حسابات أمنها القومي. أما عن علاقتها بروسيا نفسها، فترى الوثيقة أن روسيا لم تعد تشكل تهديداً وجودياً لها، بل هي مجرد خصم يمكن التفاهم معه، والأفضل لها هو احتواؤه عبر المفاوضات والحدّ من المواجهة المباشرة.
أما فيما يخص علاقتها بالصين فتشير الوثيقة أن فتح الأسواق الأمريكية للصين قد منحها فرصةً غير مسبوقة للنموِّ الاقتصادي والتكنولوجي ما جعلها اليوم أقرب ما تكون إلى الند الاستراتيجي لأمريكا، ولذلك تدعو الاستراتيجية إلى إعادة ضبط التوازن مع الصين بتطويقها عبر شبكة تحالفات واسعة، فأمريكا لن تسمح للصين أن تصبح قوة اقتصادية أو عسكرية تهدد أمنها القومي. وترى الاستراتيجية الجديدة أن ذلك لا يتحقق بالجهْد الأمريكي وحده؛ إذ يتوجب على دول الإقليم نفسها زيادة ميزانياتها الدفاعية، وتطوير قدراتها العسكرية، وبناء قوى جماعية تتيح مواجهة التحديات الصينية بصورة مشتركة ومستدامة. وبالخلاصة فإن سياسة أمريكا مع الصين مبنية على اعتبارها منافساً تجارياً لا حضارياً، ويمكن السيطرة عليها بالرسوم الجمركية ومنع نقل التكنولوجيا وغيرها من أدوات التنافس التجاري.
أما الشرق الأوسط، فالمنطقة التي شكلت لعقود أولوية مطلقة في السياسة الخارجية الأمريكية، تُقدَّم الآن كإقليم مهم لكن غير مركزي في الأمن القومي الأمريكي. السبب الأول في ذلك هو تحوّل أمريكا إلى مصدّر للطاقة، والسبب الثاني أنه يمكن إدارة الصراع في المنطقة عن بُعد عبر شبكة تحالفات إقليمية دون أن تنغمس مجدداً في حروب تستنزف قواها كما في العراق وأفغانستان.
وبالرغم من إهمال خطورة الشرق الأوسط إلا أنها لا تنسى خطر الإسلام فيه، فقد أكدت على منع تحوّل المنطقة إلى حاضنة "للإرهاب" القادر على ضرب الداخل الأمريكي، وضمان أمن وتفوق كيان يهود. ويبدو أن أمريكا تريد تحويل ملف المنطقة إلى وكلائها وشركائها وعلى رأسهم كيان يهود، الذي تطمح من خلاله إلى تشكيل منظومة إقليمية جديدة قاعدتها تحالفات مع دول الخليج وكيان يهود، وتوسيع اتفاقات أبراهام نحو بلاد إسلامية إضافية، بما يحوّل كيان يهود من عبء أمني إلى ركيزة في بنية الأمن الإقليمي كما تتصورها واشنطن. أما قضية فلسطين فلا يبدو أن الإدارة الجديدة لديها تصور واضح عن آلية حلها في الوقت الراهن لذلك تصف الصراع بأنه "معقّد"، ويُكتفى بالتوقف عند وقف إطلاق النار في غزّة، وصفقات تحرير أسرى، مع إمكانية إدارة الصراع من دون تعديل أساسي في موازين القوى ما دام محصوراً تحت سقف تفوق يهود العسكري.
ولا بد من ذكر أن أمريكا لا تستطيع تجاهل خطر الإسلام عليها، فهي في استراتيجيتها الجديدة ترى إمكانية السيطرة على الصين، وإجراء تفاهمات مع روسيا، لأن كليهما لا يشكلان خطراً مبدئيا أو وجوديا عليها، أما الإسلام فلا يمكن تجاهله لأنه الوحيد الذي يشكل خطرا مبدئياً لها، فالخطر المبدئي لا يمكن التعامل معه أو احتواؤه، وإنما العلاقة معه علاقة وجود أو عدم، لذلك لا يمكن لأمريكا إهماله حتى لو لم تنص على ذلك في استراتيجيتها الجديدة.
وأخيرا فإن أمريكا قد أثقل كاهلها عبء قيادة العالم وظهر ضعفها في قدرتها على إدارة الأزمات والصراعات الداخلية والدولية ما دفعها إلى اتخاذ هذا النهج الجديد في التعامل مع العالم الخارجي، فهي لا تريد أن تخسر دورها الريادي والقيادي في العالم ولكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تتحمل تبعات هذا الدور الذي أنهكها وأرهقها، فجاءت بفكرة جديدة في عالم القيادة وهي القيادة دون تبعات، أو جني أرباح التجارة دون دخول السوق، وهذا ضرب من الجهل والانحطاط في فهم معنى القيادة الدولية، أو معنى أن تكون الدولة الأولى في العالم. ومهما وضعت من استراتيجيات لتحافظ على سيادتها وهيمنتها فإن قطارها قد اقترب من محطته الأخيرة وباتت أيامها معدودة، وجاء دور مبدأ الإسلام الذي أظل زمانه، عسى الله أن يعجل في ظهوره.
بقلم: الأستاذ خالد علي






















رأيك في الموضوع