منذ عام 2023، كثّفت باكستان عمليات ترحيل اللاجئين الأفغان، في خطوة تهدف إلى ممارسة الضغط على حكومة طالبان، لإخضاعها التام لإرادة أمريكا. وترتبط موجات نزوح الأفغان إلى باكستان بجذور تاريخية تعود إلى حقبة الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي، والحرب الأهلية التي أعقبتها، ثم احتلال أمريكا لأفغانستان خلال الفترة (2001–2021). وقد شكّلت باكستان تاريخياً عمقاً استراتيجياً لمسلمي أفغانستان، بفضل الروابط القبلية الوثيقة الممتدة عبر ما يُعرف بـ"خط دوراند".
وبحسب إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلغ عدد اللاجئين الأفغان في باكستان ذروته عام 2002 بنحو ثلاثة ملايين شخص، بينهم حوالي 1.35 مليوناً مسجّلين رسمياً. وعلى مدى العقدين الماضيين، واصلت باكستان عمليات الترحيل بوتيرة متفاوتة، فيما تشير تقديرات مجموعة الأزمات الدولية إلى أن اللاجئين الأفغان في باكستان ينقسمون إلى ثلاث فئات:
- حاملو بطاقات "إثبات التسجيل "(PoR) الصادرة عن المفوضية
- حاملو "بطاقات المواطن الأفغاني "(ACC) الصادرة عن الحكومة الباكستانية
- أعداد كبيرة بلا أي وثائق رسمية
وقد مرّت سياسة باكستان تجاه اللاجئين الأفغان بثلاث مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى: مرحلة الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي (الثمانينات وما بعدها): خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان، فتحت باكستان حدودها أمام اللاجئين الأفغان، انسجاماً مع استراتيجية أمريكا التي سعت لتحويل أفغانستان إلى فيتنام الاتحاد السوفيتي. وقد استُخدم هؤلاء اللاجئون لتشكيل وحدات قتالية وتدريبهم فيما عُرف بـ"المجاهدين الأفغان" لتنفيذ عملياتهم ضد القوات السوفيتية. وبقيت الحدود مفتوحة حتى بعد انسحاب السوفييت عام 1989، مع فرض الحد الأدنى من الضوابط لتجنّب أي صدام مع أفغانستان.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001: مع وصول الرئيس برويز مشرف الموالي لأمريكا، تغيّرت سياسة باكستان جذرياً تجاه الأفغان؛ فالمقاتلون الذين كان يُحتفى بهم باتوا يُصنَّفون "إرهابيين". وأصبحت باكستان مطالبة بدعم غزو أمريكا لأفغانستان، ومنع القبائل البشتونية من تقديم الدعم لطالبان. أُغلقت الحدود جزئياً، وبدأت حملات إعلامية تربط اللاجئين بالجريمة والمخدرات، كما أُجريت تعديلات قانونية ألغت الوضع الخاص للمناطق القبلية، وأدمجتها في إقليم خيبر بختونخوا. وكان الهدف مزدوجاً: ملاحقة قادة المجاهدين المتخفّين بين اللاجئين، وإحداث شرخ دائم بين المسلمين على جانبي الحدود لإحباط أي مشروع وحدة إسلامية، خاصة تحت مظلة الخلافة التي يرعب اسمها الغرب وأعوانه.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي: أدّى انسحاب أمريكا في آب/أغسطس 2021 إلى تصاعد التوتر بين القبائل البشتونية على جانبي الحدود، التي حمّلت باكستان مسؤولية الدمار الواسع الذي لحق بمناطقها خلال العمليات العسكرية منذ عام 2002. ومع استئناف حركة طالبان باكستان هجماتها ضد الجيش الباكستاني رداً على الملاحقات العسكرية وتهميش مناطقهم، شدّدت السلطات إجراءاتها الأمنية، وجعلت من ملف اللاجئين أداة ضغط على طالبان الأفغانية، لترسيخ الانقسام بين الشعبين.
السياسة الراهنة: بدأت المرحلة الأولى من خطة الترحيل الجديدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مستهدفة نحو 1.3 مليون أفغاني لا يحملون وثائق قانونية. وبحلول شباط/فبراير 2025، كانت باكستان قد رحّلت أكثر من 800 ألف منهم قسراً. وفي كانون الثاني/يناير 2025، أُجبر الأفغان المقيمون في إسلام آباد وراولبندي على المغادرة قبل 31 آذار/مارس، مع اشتراط الحصول على شهادة عدم ممانعة شبه مستحيلة. وفي آذار/مارس، ألغت وزارة الداخلية بطاقات الإقامة (ACC) وأمرت أصحابها بالمغادرة قبل نهاية الشهر، كما توقفت عن تجديد بطاقات إثبات التسجيل (PoR) بعد 30 حزيران/يونيو، ما يهدد بترحيل 1.6 مليون لاجئ إضافي. ووفقاً لمنظمة العفو الدولية، رحّلت باكستان قسراً ما لا يقل عن 844.499 أفغاني بين تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وشباط/فبراير 2025، ومدّدت الموعد النهائي لترحيل الباقين حتى الأول من أيلول/سبتمبر 2025.
وهكذا، فإن الدولة الباكستانية، التي قامت أصلاً على أساس تجميع المسلمين في شبه القارة الهندية ضمن كيان ذي أغلبية مسلمة، تقوم اليوم بترحيل مسلمين فرّوا من ويلات الحروب التي شنّها الاتحاد السوفيتي ثم الولايات المتحدة على أفغانستان وأهلها، متجاهلةً حقيقة أن المسلمين أمة واحدة، لا فرق بين أفغاني وباكستاني إلا بالتقوى، كما قال رسول الله ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى» رواه أحمد.
إن النظام القُطري الذي فرضه الاستعمار الغربي إنما وُجد لزرع الأزمات الحدودية داخل البلاد الإسلامية، وإهدار الموارد في حراسة الحدود بدلاً من توجيهها للجهاد. فعلى سبيل المثال، أنفقت باكستان 500 مليون دولار على بناء سياج حدودي على خط دوراند، بدلاً من استثمارها في تدريب المقاتلين لتحرير كشمير. كما أن تشديد سياسات الحدود واللاجئين بدأ يزرع شعور الكراهية تجاه باكستان وأهلها في أفغانستان، وأضر بالتجارة بين البلدين ومع آسيا الوسطى. وبذلك، فإن الخلافات التي تولدها عمليات الترحيل القسري تخدم مصالح أعداء الأمة، وفي مقدمتهم أمريكا والهند، وتعيق أي تقارب أو وحدة بين باكستان وأفغانستان.
وأخيراً، يجب التذكير بأنه لا وجود لمفهوم "اللاجئ" في الإسلام؛ فالمسلمون أمة واحدة، والمسلم يتنقل بين أقطار البلاد الإسلامية كما يتنقل المرء بين حجرات منزله الواحد، وإن الأمن والاستقرار لا يتحققان بتقسيم الأمة إلى دويلات تفصلها الحدود السياسية الاستعمارية، بل بالعقيدة الإسلامية والالتزام الشرعي. وغياب الدولة العقائدية السياسية التي توحّد الأمة هو السبب الجوهري للفوضى التي تعيشها باكستان وسائر بلاد المسلمين. ومن هنا، فإن العمل لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ضرورة أمنية كما هو واجب شرعي ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.
رأيك في الموضوع