شكلت قضية الصحراء في بلاد المغرب ترجمة عملية لاستراتيجية خرائط الموت الاستعمارية وحدود الدم التي خطها المستعمر وبؤر التوتر الملغومة التي زرعها لتمزيق بلاد المسلمين.
فقد كانت قضية الصحراء أداة من أدوات أمريكا لاختراق منطقة الغرب الإسلامي لانتزاعه من نفوذ المستعمر الأوروبي، وبؤرة توتر لإيجاد حالة من فراغ الأمن وانعدام الاستقرار توفر لأمريكا ذرائع التدخل لبسط نفوذها الاستعماري. فكانت قضية الصحراء صناعة أمريكية بامتياز خلال منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكانت أمريكا تمسك بخيوطها السياسية عبر مجلس الأمن فأدرجتها تحت بند تصفية الاستعمار وتداولتها اللجنة الرابعة (لجنة تصفية الاستعمار) لهيئة الأمم، وعسكريا عبر البوليساريو وبعثة المينورسو بالصحراء.
وكان ملف الصحراء في يد أمريكا أداة من أدوات الصراع الاستعماري مع أوروبا، حتى كانت إدارة ترامب في ولايته الأولى وأسلوبها المستحدث لاختراق المنطقة، عبر وجودها المباشر والمكثف سياسيا واقتصاديا وعسكريا في الصحراء المغربية بوابة الساحل وأفريقيا وباباً مشرعا على بلاد المغرب الإسلامي؛ سياسيا عبر قنصليتها التي ستدير الملفات الاستعمارية الحارقة ببلاد المغرب والساحل وجنوب الساحل، واقتصاديا عبر شركاتها الاستعمارية التي ستشرف على نهب ثروات تلك الأرض البكر من فوسفات وغاز وبترول ومعادن ومناجم نادرة، وعسكريا عبر إيجاد مرتكز لقيادتها العسكرية في أفريقيا "أفريكوم"، ومناورات الأسد الأفريقي الدورية بالمغرب ودول الجوار، عطفا على توظيف الملف في اتفاقيات أبراهام الرامية إلى دمج كيان يهود في كل المنطقة عبر التطبيع الشامل. وساعد على هذا التحول الاستراتيجي الأمريكي بشأن قضية الصحراء وصول الاستعمار الأمريكي لليبيا ومنطقة الساحل بوابتي المغرب الإسلامي. فكان قرار اعتراف ترامب بمغربية الصحراء رسمياً في 10 كانون الأول/ديسمبر 2020 عبر بيان رسمي صادر عن البيت الأبيض. وجاء الاعتراض الحاد الأوروبي على هذا الاعتراف ترجمة للصراع الاستعماري بين الطرفين، انتهى مؤخرا بخضوع أوروبي تام جراء الضربات الأمريكية التي تلقاها في أفريقيا عطفا على افتقار أوروبا لسياسة خارجية موحدة تواجه بها الزحف الاستعماري الأمريكي، ومع عودة ترامب لرئاسة أمريكا تأكد الأمر.
فقد توالت مواقف الدول الغربية الكبرى ذات التأثير في الموقف الدولي في دعم الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، إسبانيا) وكذلك الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي كهولندا وبلجيكا والبرتغال، ثم كان موقف بريطانيا الأخير لتأكيد تأييدها المسبق في 1 حزيران/يونيو 2025، وخلال زيارة وزير خارجيتها ديفيد لامي إلى الرباط، وقع مع نظيره المغربي ناصر بوريطة بياناً مشتركاً، أعلنت فيه بريطانيا دعمها لخطة الحكم الذاتي بوصفها "الأساس الأكثر مصداقية وواقعية وديمومة" لحل النزاع.
ترجم هذا الموقف الدولي تجاه قضية الصحراء المغربية بافتتاح 29 قنصلية بولايتي العيون والداخلة بالصحراء كاعتراف بسيادة المغرب، كما تم تعديل وتكييف مهام المينورسو لتتماشى مع الخط الجديد في إقرار الحكم الذاتي كحل، فقد أقرّ مجلس الأمن القرار 2756 الذي جدد فيه تفويض المينورسو حتى 31 تشرين الأول/أكتوبر 2025، مع تركيز واضح على ضرورة التوصل إلى "حل سياسي واقعي ومقبول للطرفين" وليس الاستفتاء كما كان مطروحا من قبل. وفي نيسان/أبريل 2025 علّق مندوبون غربيون (أمريكا، فرنسا، بريطانيا) وبعض الدول الأفريقية بأن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية يمثل "الخيار الوحيد الجاد والعملي" وذلك أثناء مناقشة تجديد مهام المينورسو، ما جعل الخطاب الأممي يتماهى بقوة مع مشروع الحكم الذاتي بدلاً من خطة الاستفتاء.
ثم جاء التأكيد الجديد من ترامب في ولايته الحالية في رسالة تهنئة رسمية موجهة إلى الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى العرش 2025 جدد فيها اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على الصحراء ودعم خطة الحكم الذاتي كحل وحيد قابل للتطبيق، وأشار إلى أن هذا الموقف يعكس "شراكة قوية ودائمة بين الولايات المتحدة والمغرب، تشمل التعاون في مجالات السلام والأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب والتوسع التجاري ضمن إطار ما يُعرف بـ اتفاقات أبراهام".
هذا التحول الاستراتيجي الأمريكي المتعلق بقضية الصحراء وتأثيره الضاغط على دول أوروبا الفاعلة فيها وتأييده التام من طرف بريطانيا صاحبة النفوذ في المغرب والجزائر، كان خادما لبدء طي ملف قضية الصحراء المغربية وتصفيته دوليا، ترجمه خطاب العرش الأخير لملك المغرب محمد السادس الذي قال فيه "نعتز بالدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، كحل وحيد للنزاع حول الصحراء المغربية، وفي هذا الإطار، نتقدم بعبارات الشكر والتقدير للمملكة المتحدة الصديقة، والبرتغال، على موقفهما البناء، الذي يساند مبادرة الحكم الذاتي، في إطار سيادة المغرب على صحرائه، ويعزز مواقف العديد من الدول عبر العالم"، ومما قاله كذلك "حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول". وكان بمثابة إعلان على انخراط الأطراف المحلية المعنية بالقضية (المغرب والجزائر) في تصفية الملف خدمة للمستعمر البريطاني صاحب النفوذ والتأثير في السياسة الخارجية للنظامين.
وبدأت الساحة السياسية في الجزائر تثير قضايا الضغط الدولي والعزلة الدبلوماسية كمبررات لتغيير المسار تدريجيا، تزامنا مع تخفيف حدة الخطاب الرسمي وذلك ما كشفته بيانات الخارجية 2024-2025، وبدأ الحديث رسميا حول "دعم حل سياسي شامل وعادل" بدل الحديث القديم عن تصفية الاستعمار وإنهاء العدوان، كما ظهرت إلى السطح مبادرات دبلوماسية للوساطة والمصالحة سواء من طرف قطر، أو بقيادة الدبلوماسي السابق في الأمم المتحدة جمال بن عمر في تموز/يوليو 2025. وتم مؤخرا تعيين قنصلين في وجدة والدار البيضاء رغم القطيعة الدبلوماسية منذ 2021، وكلها مؤشرات على تحول تدريجي للنظام الجزائري لركوب قطار تصفية ملف قضية الصحراء، ويعزز ذلك تقليص المخصصات المالية للبوليساريو لسنة 2025 من 180 مليون دولار إلى أقل من 120 مليون دولار، أي بتخفيض يزيد عن 30% بحسب مشروع قانون المالية 2025. يعني أن قرار تصفية ملف الصحراء والانخراط فيه تم من صاحب النفوذ وعلى الأنظمة الوظيفية تنفيذ المهمة.
هي قضايانا أيها المسلمون بيد ألد أعدائنا تحولت بفعل رويبضاتنا لمشاريع لخدمة الاستعمار ومقايضته على حرب إسلامنا والخنوع للكيان الغاصب عبر اتفاقيات أبراهام ونهبا لثرواتنا باسم التوسع التجاري!
رأيك في الموضوع