عندما دخل الأوروبيون إلى أمريكا بعد ما يسمى "اكتشاف كولومبوس" لأرض أمريكا، وجدوا في تلك البلاد من الخيرات والمساحات الشاسعة ما لم يروا مثيله في أوروبا، فبدأوا بنهب الذهب وخيرات البلاد وإبادة السكان الأصليين وقد وصلت تقديرات الذين أبادوهم من 70 إلى 100 مليون إنسان في القرنين الخامس والسادس عشر الميلاديين.
ولتبرير هذه الوحشية خرجت نظريات فلسفية تبررها، فجاء المفكر البريطاني جون لوك في القرن السابع عشر بنظرية "الحق للمتحضر" حيث قال فيها: "بقدر ما يحرث الإنسان من الأرض، ويزرعها، ويحسنها، ويستغلها، تكون تلك الأرض ملكاً له"، وقال جون ستيوارت: "من حق الشعوب المتحضّرة أن تسيطر على الشعوب المتخلفة من أجل تمدينها وتطويرها".
ثم جاءت بعد ذلك نظرية "الانتقاء الطبيعي" لتشارلز داروين في القرن التاسع عشر والتي ما لبث أن تمخض عنها ما عرف بـ"الداروينية الاجتماعية" التي تقول: "المجتمعات البشرية تتطور مثل الكائنات الحية، ويجب أن يبقى الأقوياء ويتساقط الضعفاء، فلا يجب مساعدتهم".
هكذا بنت أوروبا فلسفتها ونظرتها إلى العالم ومنها المجتمعات الضعيفة، بأنها لا تملك الحق في التملك والسيادة - حتى على أرضها - وأن الأقوى هو صاحب الحق لأنه الأقدر على استغلال الأرض وإعمارها وأن قضية إزالته أو إبادته مسألة مبررة طبيعيا حسب قانون الانتقاء الطبيعي.
عام 1946 كان رئيس أمريكا هاري ترومان ووزير خارجيته جورج مارشال من أشد المعارضين لقيام دولة لليهود في فلسطين، وكان ترومان يصفهم بأنهم شعب أناني، ولكن بعد أن قامت عصابات يهود باغتصاب فلسطين وتهجير أهلها وقتل عشرات الآلاف منهم عام 1948، قرر ترومان الاعتراف بدولة يهود بل كانت أمريكا أول دولة في العالم تعترف بها وإعطائها وسام الاستحقاق، بناءً على نظرية "الحق للأقوى" التي قامت عليها الدولة الأمريكية، وهي التي طبقت ذلك على السكان الأصليين لأمريكا وأبادت منهم ٩٥٪.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1989 وتفرد أمريكا بقيادة العالم، شعرت بنشوة النصر والسيادة على العالم فكتب الفيلسوف الأمريكي فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ" سنة 1992 ظناً منه أن تلك السيادة والزعامة هي آخر ما يمكن أن تصل إليه البشرية من عظمة ومجد. بهذا الأفق الضيق كان يرى الغربيون أنفسهم بأنهم مركز الكون ونهاية التاريخ.
وعندما سُئلت مادلين أولبرايت التي كانت سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة سنة 1996 عن مقتل نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار الأمريكي على العراق، هل كان الثمن يستحق ذلك؟ فأجابت دون تردد "نعم". نعم يستحق تحقيق سيادة أمريكا على العراق والمنطقة قتل نصف مليون طفل عراقي.
وأخيراً وقبل أيام أطل علينا مبعوث أمريكا الخاص إلى سوريا توماس باراك، في مقابلة تلفزيونية يقول فيها "إنه لن يوجد سلام في الشرق الأوسط" وإن شعوب هذه المنطقة "ما هم إلا قبائل وقرى ودين"، وهم لا يعرفون معنى كلمة خضوع و"إن إسرائيل لها مكانة خاصة عند أمريكا".
فهذا الأرعن، لا يعي طبيعة هذه المنطقة، ولا يفهم معنى "أمة" ويقرر بأن الحل فيها لن يكون إلا بالقوة، وأن رئيس وزراء يهود استطاع إقناع أمريكا بقدرته على حل الأزمة بقوة السلاح. ورغم أنه أدرك هو وحكومته أن أهل هذه البلاد لا يعرفون الخضوع إلا أنه لا يفقه ما يقول، ولا يفهم طبيعة هذه الأمة المنطلقة من عقيدة راسخة لا تعرف الخضوع إلا لله.
هذه العقلية الغربية التي تشربت عقيدتها من مبدئها الرأسمالي المبني على أن الغالب هو صاحب الحق، والقوي يستطيع فعل ما يشاء، هذه العقلية لا تفهم حقائق التاريخ ولن تفهمها مهما تقلبت عليها الظروف والأحوال. وما الأمثلة التي ضربناها في استعباد الشعوب ونهب خيراتهم إلا دليل على نمطية التفكير عند الغرب. وهذه العقلية النمطية لا يمكن لها أن تدرك الحقائق والسنن الإلهية في الكون، من أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنهم خلقوا أحرارا لا عبيدا، وأن الحق في سيادة الأرض واحد لا يتجزأ ولا يتغير بتغير القوى، وأن أهل الحق هم أصحاب الرسالة الربانية، وأن الله وحده الذي يعطي من يشاء ويقرر ما يشاء ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ فالمالك، وهو الحق سبحانه، هو الذي أعطى ميراث هذه الأرض للصالحين.
لن يفهم الغرب سنن الله في هذا الكون إلا إذا اعتنقوا مبدأ الإسلام. تلك السنن التي تقضي أن سيادة الباطل زائلة ولو بعد حين ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً﴾، وأن أهل الحق هم المنصورون لا محالة، والباطل ضعيف مهما تعالى وانتفش، وأن قدرات الأمم المؤمنة بربها أعلى وأشد وأقوى من كل قوى الباطل مهما علا شأنها وارتفعت.
هذه السنن الكونية يراها المؤمن والكافر، يراها المؤمن ببصيرته ونور الله الذي أرسله إليه عن طريق الرسل والأنبياء، فينطبق واقعها على تلك الحقائق الربانية فيصبح إيمانه بها يقينا راسخا لا يتزعزع مهما تكالبت عليه الخطوب، وأدلجت عليه ظلمات الباطل، فقبل أن يبعث الله موسى إلى قومه أخبرنا بالحقيقة الربانية أنه منصور من لحظة الولادة، وعندما أوحى إلى موسى عليه السلام أخبرنا بحقيقة النصر قبل وقوعها فقال: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ لم يشكّ موسى عليه السلام بأن النصر قادم لا محالة وقد كان له ولقومه النصر على فرعون وجنوده.
أما الكافر، فهو كذلك يرى تلك الحقائق الكونية أمام عينيه كما يراها المؤمن، يرى هلاك الظلمة والطغاة والجبابرة، ولكن عناده وكفره واستعلاءه بنفسه يعميه عن رؤية السنة الربانية في واقع الأحداث فيفسرها تفسيرا ماديا بأن الحق بيد الغالب، والقوي يضع القانون للضعيف، والحق للمتحضر، والأقوى هو السيد والضعيف عبد وخادم له، والقوة لا تزول ما دامت أسبابها بيده.
ولذلك لا يستغرب ما تقوم به دولة يهود اليوم من تطهير عرقي في غزة بدعم مطلق من أمريكا ومن ورائها دول الغرب. ولا يستغرب استمرارها في الإبادة ما دام لا يوجد قوة حقيقية رادعة لها. ولا يستغرب تبجح رئيس وزراء يهود بقوله "أيدينا تستطيع أن تطال من نشاء ومتى نشاء في أي مكان". ولا يستغرب أن أمريكا ترى استمرار الحرب في المنطقة لتحقيق غايتها وأغراضها في إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية كما تريد، ما دامت تملك القدرة على ذلك.
هذه العقلية العمياء التي لا ترى إلا يد القوة والردع المادي لا يمكن أن يوقفها إلا قوة دولة حقيقية تجعلها ترى الحق وتخضع له ليس بالحجة والإقناع، بل بالقوة الحقيقية، فمن عمي عن رؤية الحق بقلبه، رآه بأم عينه. عسى الله أن يعجل بقيام تلك الدولة العزيزة القادرة على ردع الطغاة ووضع حد لظلمهم وفسادهم.
بقلم: الأستاذ خالد علي – أمريكا
رأيك في الموضوع