لقد شكلت عودة ترامب لسدة الحكم في أمريكا منعطفا تاريخيا فارقا في طبيعة التعامل بين أمريكا والبرازيل. ويتضح ذلك جليا في تسلسل الأحداث في الصراع الداخلي بين المتنفذين في المشهد البرازيلي وتدخل أمريكا ترامب بشكل فج مع طرف ضد الآخر.
أما من حيث طبيعة العلاقات التاريخية بين البرازيل وأمريكا فلا يخفى على أحد أن للمؤسسة العسكرية في البرازيل حصة الأسد في كواليس نفوذ حكمها، وهي مرتهنة تاريخيا للإدارة الأمريكية القائمة، مثلها مثل سائر دول أمريكا اللاتينية. فإن المستجد في المشهد البرازيلي أنه في الفترة الرئاسية الأولى لترامب قد صنع لنفسه تيارا من الأتباع في البرازيل في الوسط السياسي والمؤسسة العسكرية، وهؤلاء انخرطوا في خطة لمحاولة انقلابية على خيار الإدارة الأمريكية الجديدة في الانتخابات التي أرجعت لويس إيناسيو لولا دا سيلفا للحكم. ولكن بسبب الانصياع التقليدي للفئة الوازنة من قيادات العسكر لتعليمات الإدارة الأمريكية الرسمية، في حينه بايدن، فقد فشلت خطة الانقلاب، بل أصبح التيار الانقلابي مكشوفا ومحلا للإدانة بإثباتات من داخل الجيش خاصة من طرف الذين رفضوا السير في الانقلاب وقد عرض عليهم تفاصيل خطة الانقلاب مسبقا.
هذا الحدث أوجد في المؤسسة العسكرية البرازيلية شرخا عميقا وولد بشكل طبيعي عداء بين طرفي العسكر، وطالما كانت إدارة بايدن في الحكم، فلا نفوذ كامل للفئة الانقلابية، والأمور تحت السيطرة. ولكن مراهنة الانقلابيين بعودة ترامب لحكم أمريكا والتوعد الذي رافقه من الانقلابيين للفئة الحاكمة، وهنا يتجلى التحول الجوهري في المشهد؛ فبعودة ترامب فتح التيار الانقلابي جبهة المواجهة في مجلس النواب محاولين استصدار عفو عام عن الانقلابيين وإغلاق ملف التخطيط لمحاولة الانقلاب ومتعلقاته.
وهنا أصبحت المؤسسة العسكرية الرسمية أمام خيارين؛ إما الانصياع التقليدي للإدارة الأمريكية الجديدة وانتظار انتقام التيار الموالي لترامب منها، أو الدفاع عن نفسها والانقضاض بشكل نهائي على تيار الانقلابيين. وهذا ما يفسر استنفار الدولة في التحقيقات وما تلاها من اعتقالات في صفوف كبار الضباط، في سابقة تعد من المحرمات في البرازيل. برغم أن الأدلة على إدانتهم موجودة بيد الدولة منذ عامين (وإن صرحت بعكس ذلك).
وهذا ما يفسر كل مجريات الأحداث فيما بعد، بداية بزيادة التعريفة الجمركية لـ50% على البضائع البرازيلية، خصوصاً الحديد الصلب، والألمنيوم، بحجة حماية الصناعة الأمريكية.
لكن هذه الرسوم لم تكن موجهة فقط لأهداف اقتصادية بل كانت سياسية بحتة، فقد كانت أكبر زيادة في الضرائب المفروضة على الدول المصدرة لأمريكا، في محاولة للضغط على حكام برازيلية، كما استخدمت واشنطن نفوذها في المؤسسات الدولية للضغط على البرازيل في ملفات أخرى، مثل قضايا البيئة وتغير المناخ، حيث تعرّضت البرازيل لانتقادات حادة بسبب تدهور غابات الأمازون، وهو ملف حساس سياسياً يُستثمر أيضاً كورقة ضغط. ثم الخطاب الرسمي المشكك بالقضاء البرازيلي والانتخابات الرئاسية وفرض عقوبات على شخصيات قضائية بارزة مثل رئيس المحكمة العليا أليشاندري مورايس. وفي المقابل كانت صلابة في موقف البرازيل، ورفض تام لتدخلات أمريكا في قرارات القضاء، وتعزيز السوق الداخلي والإقليمي مع منطقة ميركوسور، وبحث عن أسواق بديلة عن السوق الأمريكي، وتعويض المنتجين المحليين المتضررين، والإصرار على السيادة الوطنية، ما عزز الالتفاف الشعبي حول قيادة لولا دا سيلفا، وصار المطلب الشعبي لضرورة محاكمة وسجن جايير بولسونارو في تصاعد، وهذا ما تم في سابقة تاريخية (اعتقال رئيس سابق لمحاولة انقلابية!).
إن هذا المشهد زاد من ورطة أمريكا في البرازيل، فلا يستهان بعواقب تحدي العسكر رسميا لتوجهات الإدارة الأمريكية الرسمية. وكذلك دفعت أمريكا بعنجهيتها نحو خلق حاضنة داخل المؤسسة العسكرية لتيار اليسار التقدمي لاجتماعهما في مصلحة واحدة وهي الحماية من انتقام ترامب وتيار بولسونارو، إضافة لذلك تجرؤ البرازيل على البحث عن أسواق وشركاء تجاريين بعيدا عن أمريكا بشكل رسمي، مثل الصين والاتحاد الأوروبي. وما كان من الرئيس البرازيلي من تصريحات في إطار وصف الإبادة التي يرتكبها يهود في غزة بالمحرقة وتكرار هذه التصريحات والمواقف الرسمية المتعاطفة مع غزة، كذلك قرار البرازيل منع الولايات المتحدة من المشاركة في المنتدى الثاني "دفاعا عن الديمقراطية وضد التطرف" الذي عقد في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إنما هي سياسات آتية في سياق التجرؤ على أمريكا في أثر رجعي لعنجهيتها وسياساتها الفوقية.
وعلى إثر صلابة موقف البرازيل والتحام موقفها مع القضاء والعسكر المتخوفين من انتقام ترامب، وتداعيات فقدان مصداقية التيار الموالي لترامب (البولسوناريون) في الشارع البرازيلي، يبدو أن ترامب يحاول المراوغة بالتقرب من لولا بعد طول قطيعة وتدهور علاقات البلدين حتى العداء! فكانت كلماته المبتذلة عن الكيمياء المشتركة والإعجاب بشخصية الرئيس لولا خلال لقائهما لعشرين ثانية في ردهات مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك! وكان رد الرئيس لولا إيجابيا لمبادرة ترامب، وفي الحقيقة إن أي تسوية الآن بين الدولتين ستكون في مصلحة البرازيل ولو بشكل جزئي، ما لم تساوم البرازيل على المسار القضائي واستمرت في سياسات إنهاء نفوذ تيار بولسونارو - ترامب.
بقلم: الأستاذ ياسر أبو خليل - البرازيل
رأيك في الموضوع