صرح نتنياهو مؤخرا بأنه يشعر أنه "في مهمة تاريخية وروحية"، وأنه متمسك جداً برؤية "إسرائيل الكبرى"، التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربما أيضاً مناطق من الأردن ومصر، نتنياهو الذي يتكلم عن حلمه وروحانياته والتزامه بمشروعه التوراتي، سبق قبل فترة أن تكلم عن أحلام غيره، أو مشاريعهم، حين نفى السماح بإمكانية عودة الخلافة على سواحل المتوسط، بمنطق أنه سيد المنطقة وصاحب المشاريع فيها.
إن تصريحات نتنياهو هي جرس إنذار، ودق مزدوج لناقوس الخطر، حيث إنها قد تجاوزت كل حدود الوقاحة، وهي كما تشير إلى المستوى الذي وصل إليه كيانه في المطامع والعدوان، فإنها كذلك تصف الحالة التي وصلت إليها الأمة من الضعف والهوان في ظل تلك النظم الحاكمة، وكلاهما أمران خطيران، وكأن مشروع ما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى" شقان يعملان معا ويشكلان ظرفاً موضوعيا يكمل كل منهما الآخر:
أما الشق الأول فهو متعلق بالكيان وطبيعته، ويبرز ذلك في أمور منها:
أولا: أن الكيان ومنذ قيامه هو كيان توسعي، فمنذ قرار التقسيم الذي أعطاه نصف مساحة فلسطين، إلى حرب عام 1948 والتي أكمل الاستيلاء فيها على 78 بالمائة، ثم استيلائه على الضفة الغربية والعمل منذ ذلك التاريخ على ابتلاعها يوحي بالمعنى المطلوب، ولا يوجد ما يدل على نيته التوقف، وذريعته الدائمة هي إيجاد مجال واسع يحفظ به أمنه. أما التصريحات الأخيرة فقد تجاوزت ضرورات الأمن إلى مشروعهم التوراتي، بل إن فكرة "إسرائيل الكبرى" تعود إلى هرتزل مؤسس الصهيونية، فالأمر عندهم ليس فكرة وليدة اللحظة بقدر ما هو هدف وغاية تعيش في مكنون الكيان.
ثانيا: إن فكرة "إسرائيل الكبرى" لم تعد تصريحا شاذا لدى سياسي واحد، بل هي مشروع يحمله الكثير من سياسيي الكيان، وله تعبئة كافية داخل مجتمع متطرف يميني الطابع، ونتنياهو بتصريحاته إنما يعبر عن جمهور الكيان، وقد صرح وزيرهم للاتصالات بالأمس قائلا "ضفتان لنهر الأردن، هذه لنا وتلك أيضاً، والضفة الغربية لنا أولاً".
ثالثا: وفي عالم لم يعد في سياساته، وخصوصا لدى أمريكا، خطط مقدسة ولا قيم ثابتة، فإن تغييرات كبرى في المنطقة ليست مستبعدة، خصوصا وأنهم يتكلمون عن سايكس بيكو جديدة، وحيث عداؤهم للإسلام لا يقف عند حد، ومع هذه العدوانية الشرسة فإن ما لم يكن متصورا قد صار واقعا.
أما الشق الآخر المخيف، بل والأكثر رعبا، فإنه يقع في الجانب المقابل والمتمثل في حكام المسلمين وأنظمتهم، ولسان حالهم أنهم يشكلون الجزء الآخر والمكمل الموضوعي لمشروع "إسرائيل الكبرى"، فهم وإن رفضوا تصريحات نتنياهو الأخيرة، ولكنهم على أرض الواقع ومنذ عقود يصنعون مقدماتها، ولا يزالون يؤسسون للهزائم، والظرف الذي تم فيه ابتلاع فلسطين وتهجير أهلها، ومن ثم ابتلاع الضفة الغربية ثانيا وسيناء والجولان، لا يزال هو ذاته قائما بل وأكثر سوءا، والحكام الآن هم أقرب للهزيمة حيث لا يزال تواطؤهم هو سيد الموقف.
لقد قام هؤلاء الحكام، وما زالوا يقومون بكل ما من شأنه أن يكشف الأمة ويوهنها أمام عدوها، فهم من ناحية قد أنهكوا البلاد والعباد بالإفقار والفساد، ولم يصنعوا سلاحا، ولم يحفظوا ثغورا، ومن ناحية أخرى وبعكس المطلوب وبما تقوم به الدول عادة، وبدل أن يساعدوا إخوانهم في فلسطين وينصروهم على عدوهم جميعا، أو على الأقل على إبقائه مستنزفاً مرهقا، تآمروا معه على الأبطال من بني جلدتهم، وها هم الآن يطالبون بسحب السلاح من غزة، ولم يتعلموا حتى من عدوهم كيف يمد الانفصاليين في سوريا ويتعاون معهم لضرورات أمنه.
وعلى خلاف عادة الدول عند التهديدات خصوصا أمام عدو استراتيجي في أن تنشئ الأحلاف وتزيد التسلح وتستشعر الخطر، وتستنفر، بأن تحشد الأمة وتقوم بالمناورات العسكرية، أو بأي شيء يحقق الردع، فإن ما يقوم به هؤلاء هو العكس تماما عندما يتجاهلون اعتبار كون الكيان عدوا أصلا وهو يصرح يوميا بالعداء، وهو سلوك خياني، وتفريط بأمن الأمة والشعوب، وبالمقابل فهم لا يرون خطرا إلا من شعوبهم، ويستنفرون تجاه كل صيحة أو صرخة تأتيهم منها، ولو كانت نداء استغاثة.
ولقد كانت رسالة حكام العرب جميعا بما أقدموا عليه من خذلان لفلسطين وأهلها، رسالة التقطها العدو جيدا، وهي رسالة لم تبعث له إلا بخوفهم وجبنهم، ولم تثر فيه إلا أطماعه كما يطمع الذئب بالحمل الضعيف، وبينما كانت ولا تزال الطبيعة الجهادية لدى أمة الإسلام هي أخطر الأسلحة التي قد تبرزها في وجه أي عدو في الدنيا، ولكنهم حرصوا قبل غيرهم على إطفاء تلك الجذوة.
ولعل هذا الأخير هو أخطر ما قاموا به في تاريخهم، أو قام به الاستعمار الغربي من خلالهم، وهو الإضعاف العقدي، لغرض إنشاء أجيال لا تصلح لحرب ولا تخوض مواجهة، وفي الوقت الذي يصرح فيه نتنياهو بغايته وحلمه الديني العابر للحدود، يحرص حكام العرب على محاربة وإقصاء كل ذكر للمشروع المقابل كمشروع الإسلام والخلافة، ومحاربة أهله، والنأي بأنفسهم عن كل ما يقرره الإسلام ويوجبه، بإعلانهم المتكرر عن استبعاد الجانب الديني العقدي من القضايا، والحرص على الناحية الوطنية التي تفتت المشروع المقابل لمشروع الأعداء وهو مشروع الأمة.
وها هم يهود اليوم يبتلعون الضفة الغربية ويسعون لتهجير أهل غزة، ويحتلون أراضي سورية ولبنانية، ويسعون لإيجاد ما يسمونه ممر داود، وبالتالي فما الضامن لمصر والسعودية وسوريا من اقتطاع جديد؟ وما الضامن للأردن ألا يبتلع؟ وهل ستنقذهم أم ستخذلهم سياسة "من أغلق عليه باب وطنه فهو آمن" الملعونة؟ أم سيخذلون بعضهم بعضا كما خذلوا فلسطين وأهلها؟؟
إن يهود قد نبأنا الله تعالى من أخبارهم، وكشف لنا في كتابه فسادهم المستمر، ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾، فهو مشروعهم الدائم، والكفار عموما قد كشف الله لنا أيضا مشروعهم ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، وإن الأمة الإسلامية لديها القوة، وهي قادرة على سحق الكيان ودفنه، ودفن أحلامه الخبيثة معه، بل وأكثر من ذلك، دفن الاستعمار وأطماعه، إن جعلت مشروعها هو الإسلام العظيم وإقامة دولته، والكل رهين بخلاصها من حكامها العملاء، وإلا فإن القوة المعطلة كعدمها، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن اللداوي
رأيك في الموضوع